أعدت وكالة أنباء الشرق الأوسط تقريرا عن التصريحات الأخيرة لرئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان، وانعكاساتها لمواقفه التي يمر بها بعد انتكاسة حلمه بإعادة إحياء الإمبراطورية العثمانية. وقالت الوكالة: "لم تكن تصريحات رئيس الوزراء التركي الأخيرة حول مصر، إلا إنعكاسا وترجمة واضحة للموقف الاستثنائي الذي يمر به الرجل بعد انتكاسة مروعة لمحاولات إحياء الحلم الإمبراطوري العثماني"، لافتة إلى تراجع حضور "العثمانيين الجدد" في المنطقة والعالم على خلفية خسارة موقعه كوكيل حصري لرعاية المصالح الأمريكية في الشرق الأوسط لصالح البديل الإيراني. وأضافت: "يبدو أن أردوغان أخطأ الحسابات عندما تصور أن بإمكانه إعادة نفس السيناريو الذي جرى ظهر الثلاثاء 29 مايو عام 1453، عندما ترجل السلطان محمد الفاتح عن حصانه، وسجد شكراً لله تعالى، ودخل أياصوفيا وأمر برفع الأذان وإقامة الصلاة فيها، معلناً بذلك تحويل أكبر كنيسة إلى مسجد، وبعدها انطلق العثمانيون ليرسموا حدود إمبراطوريتهم التي طال نفوذها قارات العالم القديم الثلاث إفريقيا وآسيا وأوروبا". وتابعت: "لم يدرك أردوغان الذي ارتدى حلة السلطان العثماني العصرية، أن احتفاء إسطنبول التي انطلق منها بالآذان والمساجد، وشرب القهوة، لا يكفي لتغيير المعادلات السياسية أو الضرب خلف أحزمة منظومات الثوابت، حتى وإن تغيرت توجهات المصالح، خاصة إذا غلفت أوهام وغطرسة القوة أطر التحركات، فتلك الأوهام تدفع بأصحابها إلى انتهاج تصرفات تستهتر بالخصوم وتبالغ في محورية موقعها، ولا تقيم وزنا لحضارات وشعوب خرجت منتصرة دائما عبر تاريخ امتد آلاف السنين". وعلى الرغم من نعومة الأردوغانية الجديدة في بدايتها، خاصة بعد أن حاولت تسويق مبادئها التوسعية الإمبراطورية داخل قفاز حريري، إلا أن تلك النعومة لم تستمر طويلا بعد اصطدامها بواقع أجبرها على السقوط المروع، فلم تعد تقوى شعاراتها القائمة على "أهمية المشتركات الحضارية بين العرب والأتراك" و"استلهام آفاق مستقبل أكثر إشراقاً"، وغيرها من الشعارات على أن تفسر مواقف الدولة التركية ضد من كانت تزعم أنهم أشقاء لها، لمجرد وقوف تلك الدول وخاصة مصر ضد تمدد نفوذ تيار "الإسلام السياسي" الذي يمثل قاعدة الأردوغانية الذهبية. وأردفت: "أثمر هذا السقوط المروع لشعارات الأردوغانية "كشف المستور" عن حقيقة ما حاول "العثمانيون الجدد" الترويج له ، خاصة صياغة مستقبل الشراكة العربية التركية، وجدية إسهام تركيا في التنمية الشاملة، وإرساء مبادئ الأمن والاستقرار والتسامح، التي تحترم التعددية الثقافية وتضمن حق الاختلاف والتعبير والتفكير، والاحترام الكامل لحقوق الإنسان". ولعل تصريحات "أردوغان" الأخيرة التي اعتبرتها الخارجية المصرية "لا تستحق الرد"، تقدم أفضل دليل على طبيعة فكر هذا الرجل الذي حاول أن يسوق نفسه كإسلامي مستنير يستند إلى تراث وأخلاقيات السلف، في نفس الوقت الذي لا يجد ضيرا في مد خطوط الوصل مع أعداء الإسلام، وهو ما يمكن تسميته ب"العلمانية الإسلامية". وتابعت: "فعندما سقط الرهان الغربي على سيادة تيارات الإسلام السياسي لموجات ما يعرف ب"الربيع العربي"، سقطت الخيارات الأردوغانية التي روجت لمبادىء المشتركات الإنسانية، والمطالب المشروعة لشعوب الشرق الأوسط وشمال إفريقيا في نضالهم، من أجل تأسيس مبادئ العدل والديمقراطية، وبناء دولة القانون والمؤسسات، وتعزيز حقوق الإنسان والحريات العامة والخاصة، كما تأكد سقوط شعارات من قبيل "تعزيز الروابط الحضارية والتاريخية والثقافية بين الشعبين العربي والتركي، ومسؤولية تركيا الكبيرة في تصحيح الصورة النمطية لدى كل طرف بما يساهم في تأسيس شراكة دائمة ومتكافئة بين الجانبين، و"الإرادة التركية القوية في تعزيز التعاون مع العرب بما يحقق المصالح المشتركة ويعزز الأمن والاستقرار في المنطقة". وقد أدى هذا السقوط إلى توقف مسيرة صعود تركيا كلاعب اقليمي يعول عليه، خاصة خلال العامين الماضيين بعد أن ترنحت السياسة الخارجية "الأردوغانية" تحت وطأة تعظيم دور مصطنع ورسم استراتيجيات غير متجددة مع واقع الأحداث، بالإضافة إلى استحضار أمجاد العثمانيين التي أفل نجمها منذ زمن ولا مجال لإعادتها. أعاد هذا السقوط إلى الأذهان سنوات "رجل أوروبا المريض"، وذكريات انهيار الإمبراطورية العثمانية إلى مخيلة "أردوغان"، فيما وضعت التطورات التي لم يراع فيها "العثمانيون الجدد" تقاليد اللياقة الدبلوماسية نهاية مأساوية لسياسة "صفرية المشاكل"، التي وضعها وزير الخارجية أحمد داوود أوغلو وبشرت بمرحلة هانئة مزدهرة، فانقلبت إلى استراتيجية خاطئة انهارت معها كافة علاقات تركيا الاقليمية، وأكمل الإجهاز عليها انتقال الصراع إلى داخل النخبة السياسية في حزب "العدالة والتنمية" الحاكم، بعدما فضحت قضايا الفساد أوهام المستقبل الباهر والاستقرار الآمن. ومن خلال قراءة لمراحل انهيار استراتيجية "صفرية المشاكل" وطبيعة تحولها إلى سراب أنتج حالة من انعدام الوزن لدى "العثمانيين الجدد"، يمكن اعتبار حالة الاستسلام التركي للتوجهات الأمريكية أحد أهم معاول الهدم لتلك الاستراتيجية التي كانت تعتمد بالأساس على الرضا الأمريكي ومكاسب الميزة النسبية للوكيل الحصري، حيث كانت السياسات التركية يجري تحديدها وتوجيهها بقدر ما تخدم السياسات الأمريكية، وذلك ضمن ممارسات سعت باستمرار إلى تعميم نموذج الإسلام التركي المتصالح مع إسرائيل داخل الغرف المغلقة والمعادى لها جماهيريا وإعلاميا. ففى الوقت الذي احتلت فيه تركيا موقعا متميزا فى منظومة العلاقات الإسرائيلية اقتصاديا وعسكريا وسياسيا، من خلال نسج أوثق العلاقات بين أنقرة وتل أبيب، كانت الآلة الإعلامية تصور "العثمانين الجدد" وعلى رأسهم أردوغان كقادة مسلمين معادين للكيان الصهيوني، من خلال بعض المواقف التي تنسج بطولات وهمية، سرعان ما كشفتها المواقف من القضايا ذات الصلة بالشأن العربي والإسلامي، وكان آخرها الموقف التركي الداعم لإثيوبيا ضد مصر في قضية بناء السدود وتقليص حصص المياه. فمنذ تسلمه مقاليد السلطة في تركيا قبل أحد عشر عاماً، واستنادا إلى دعم أمريكي لا نهائي، تمكن أردوغان من ترسيخ مراكز القوة بين يديه متحديا نفوذ وهيبة وقداسة "الأتاتوركية" التي كانت تجسدها المؤسسة العسكرية والأجهزة الأمنية، وهو ما كرس حالة من النشوة بالنصر عقب كل مرحلة من مراحل الانتخابات التي أعادته للسلطة. وقد دفعت هذه الإنتصارات المخططة والمدعومة أمريكيا وإسرائيليا أردوغان، الحالم بإعادة أمجاد الإمبراطورية العثمانية، إلى المجازفة في التمدد الإقليمي وإحياء مشروع حكم "الإسلام السياسي" ولكن بوصفة تركية عصرية تلقى قبولا أوروبياً وأمريكياً، وتغازل في الوقت نفسه مشاعر المسلمين الذين وضعوا أحد "العثمانيين الجدد" وهو أكمل الدين إحسان أوغلو على رأس منظمة "المؤتمر الإسلامي"، مع اكتمال ثلاثية الانتشار والنفوذ متعدد التوجهات بنسج أوثق العلاقات مع إسرائيل. وعلى خلفية النمو الاقتصادي والتطور الديناميكي السياسي لتركيا فى ظل حكم أردوغان خلال السنوات الأخيرة، لم تبد استراتيجية "صفرية المشاكل" التي أتاحت هذا التمدد فكرة غريبة، وذلك على الرغم من انتقادات بعض المتشائمين الذين أعربوا وقتذاك عن شكوكهم في مدى واقعية هذا الموقف، نظرا لكثرة جيران تركيا المختلفين بدءا من البلقان والقوقاز وحتى روسيا والشرق الأوسط، بالإضافة إلى صعوبة بناء علاقات منسجمة خالية من المشاكل مع الجميع. إلا أن رهان القيادة التركية على جاذبية فكرة "صفرية المشاكل"، إنهار مع بدء مخطط تفتيت المنطقة الذي دشنته عمليا أحداث "الربيع العربي"، خاصة مع اندلاع أحداث سوريا ثم انهيار نظام الإخوان في مصر، ما أدى إلى افتضاح هشاشة منظومة العلاقات التركية بعد أن اتخذت طابعا شديد الارتباك يتناقض مع كافة الدول المجاورة ولو بدرجات متفاوتة. وكان نشاط تركيا المحموم على المسرح الشرق أوسطي قد أدى إلى إفشال جهود حكومة أردوغان فى بناء علاقات خاصة متميزة مع طهران، خاصة بعد أن اتخذت الأزمة الداخلية في سورية طابع الصراع السني الشيعي، فيما انتقلت الخلافات التركية الإيرانية إلى العراق المحسوب طائفيا وسياسيا لصالح إيران. كما أن أجواء علاقات تركيا مع اللاعبين الأقوياء في الجبهة الإقليمية المعادية للأسد، خاصة المملكة العربية السعودية، أصابها العطب فى ظل التهديد المباشر من أنقرة لدولة الإمارات العربية المتحدة، وهو ما أعاد العلاقات مع دول الخليج إلى مربع الريبة بسبب تصميم "العثمانيين الجدد" على المشاركة النشطة في شؤون العالم العربي، وسعيهم الدءوب إلى فرض الهيمنة الأيديولوجية على المنطقة، ضمن خارطة نفوذ مشتعلة ظهرت ملامحها وأهدافها القائمة على تأجيج الصراع "السني – الشيعي" في المنطقة، وهو ما يمكن أن يفضي إلى حرب ممتدة، المستفيد منها عمليا وعلى كافة المستويات إسرائيل والغرب. وكما راهن أردوغان على ثبات نظام بشار الأسد وقدرته على الصمود، ووجه دعمه إلى المعارضة بهدف الاستفادة المستقبلية من هذا الدعم حال وصولها إلى السلطة في دمشق، راهن أيضا على دعم الإخوان على أمل أن تتحول مصر إلى ساحة صراعات مميتة، ويعود حلفاؤه في التنظيم الدولى إلى سدة الحكم. فيما دفعت غطرسة وطموحات أردوغان الإقليمية السياسة التركية إلى درجة التصادم مع الراعي الأمريكي، الذي راهن "في بداية عهد أوباما" على دور وظيفي متميز له في الإقليم، وهو ما أدى إلى فشل خطط أمريكا في احتواء الأزمة السورية وخسارة موقعها كلاعب أساسي في تلك الأزمة لصالح روسيا وحليفتها إيران، كما تجسد هذا التصادم الذي أنتجته غطرسة "العثمانين الجدد" بشكل واضح مع سقوط الإخوان في مصر وثبات أردوغان على معاداة السلطات المصرية الجديدة. ولم يتراجع أردوغان عن سياسته حيال مصر، رغم توسيع الفجوة مع الدولة الأكبر عربيا، والتي بلغت حد طرد السفير التركي من القاهرة، في وقت تباينت مواقف الولاياتالمتحدة بشأن القضية المصرية بهدف الحد من حجم خسائرها التي أنتجتها المواقف المعادية لرغبة الشعب المصري، وذلك على عكس أردوغان الرافض للتكيف مع المعطيات المتجددة، وهو ما مثل تحديا صارخا لمصر وأمريكا على حد سواء. ومما زاد الطين بله بالنسبة لأردوغان بسبب انهيار استراتيجية "صفرية المشاكل" وتردي الموقع الإقليمي لتركيا، ما يواجهه حزب "العدالة والتنمية" من ضغوط داخلية وصراعات ومعارضة في الشارع، بعد أن تبخرت شعارات الازدهار الاقتصادي التي واجهت انتكاسة تلو الأخرى، وكان أحدث تجلياتها هبوط التداول التجاري في سوق البورصة المالية وتخفيض قيمة الليرة التركية بنسبة تجاوزت 5% في شهر ديسمبر الماضي، علاوة على تراجع تدفق الاستثمارات ورؤوس الأموال الأجنبية، بسبب عدم استقرار المشهد السياسي، واتهامات الفساد التي تلاحق النخبة الحاكمة. وليس ثمة شك في أن سياسات أردوغان وفريقه قد أضاعت الفرصة من تركيا لتمارس دورها كوسيط إقليمي، وهو الدور الذي لم يكن باستطاعتها القيام به دون دعم وتأييد أمريكي "بات محل شك"، وهو ما عكسه التقارب الأمريكي مع إيران، كما أن المشكلات الداخلية وتوتر المشهد السياسي مع اقتراب الاستحقاق الانتخابي في مارس القادم، أربك حسابات "العثمانين الجدد" إلى الحد الذي فقدوا معه العقل اللازم لإعادة تدوير أحلامهم الإمبراطورية. وبدلا من حصد مكاسب استراتيجية "صفرية المشاكل" التي انهارت، يستمر أردوغان وفريقه فى حصد خيبات "صفرية العقل" التي أطاحت بما تبقى من لياقة توجبها الأعراف الدبلوماسية، بما تنتجه من تصريحات عنترية تحرق ما تبقى من مساحات الود مع الشعوب العربية قبل حكوماتها، وتمهد لإطلاق رصاصة الرحمة على أيام حكمه التي تقترب من نهايتها.