شاهدنا احتفالات روسيا بالذكرى السبعين لانتهاء الحرب العالمية الثانية ومسيرة رؤساء الدول ومعهم الرئيس عبدالفتاح السيسى لوضع الورود على النصب التذكارى لضحايا تلك الحرب وهم بعشرات الملايين داخل أوروبا وخارجها حتى مصر التى وصلت إليها طائرات النازى الألمانى وقصفت بيوتنا فى الإسكندرية عام 1942ونصحتنا الحكومة بأن نهاجر من المدينة الى الريف عند أقاربنا لتجنب سقوط ضحايا الغارات الجوية الألمانية التى كانت تقصد قصف دفاعات المحتلين الإنجليز المنتشرة بين المساكن. وانتهت الحرب فى شهر مايو منذ سبعين سنة وانكشف غطاؤها عن أكبر مأساة شهدتها البشرية بهدم ملايين البيوت وإزهاق أرواح عشرات ملايين البشر وخاصة بعد أن ألقت أمريكا قنبلتين ذريتين على اليابان، وانفتحت أعين الجميع على أخطر مصير للكرة الأرضية إذا ما انطلق مارد الذرة فى حرب ثالثة فجلس السوفييت مع الأمريكان والصين والبريطانيين ثم لحق بهم الفرنسيون لإنقاذ العالم بإنشاء منظمة الأممالمتحدة عام 1945 ثم لحقت بها ألمانيا بعد ذلك وأصبح أعداء الأمس حلفاء اليوم تحت راية المنظمة العالمية التى ورد فى ميثاقها هذه العبارة: «نحن شعوب الأممالمتحدة.. وقد آلينا على أنفسنا أن ننقذ الأجيال المقبلة من ويلات الحرب التى فى خلال جيل واحد جلبت على الإنسانية مرتين أحزاناً يعجز عنها الوصف» وأكدوا على ثلاثة أهداف تتمثل فى تحقيق السلام وتقرير المصير للشعوب وحماية حقوق الإنسان. وترجم محاربو الأمس هذه الشارات فى أوروبا بإنشاء منظمة سياسية ديمقراطية للتقارب والتفاهم والتنمية ضمت حالياً «47» دولة أوروبية تحت لافتة «مجلس أوروبا» حيث يجتمعون دورياً فى برلمان أوروبا بمدينة ستراسبورج الفرنسية على الحدود الألمانية، وقد كان من حظنا أن ندخل ذلك البرلمان ونجلس فى شرفة الزوار ونتابع مناقشات تلك الوفود متعددة اللغات مع الترجمة الفورية ثم باجتماعهم ولقاءاتهم وتآلفهم حتى فى الفنادق التى يقيمون فيها بعد عبورهم الحديقة التاريخية الجميلة المسماة «الأورانجيرى» والتى أنشأها نابليون بونابرت فى أواخر القرن التاسع عشر هدية لزوجته حيث يقطعها أعضاء البرلمان سيراً على الأقدام نحو الفندق فيتمتعون بجمالها.. ولكن ستقع أعينهم على منظر بشع للحرب العالمية الثانية متمثل فى أطلال مبنى إدارة الحديقة الذى قصفته طائرات النازى الألمانى فهدمه وأشعلت فيه النيران.. وقد تركه الفرنسيون على تلك الحالة لكى يراها كل من يمر بالحديقة ولا ينسى مآسى الحرب العالمية الثانية. غير أن أشجار الحديقة التاريخية مازالت قائمة شامخة فى السماء بسيقانها البيضاء كما لو كانت أعمدة هائلة من الرخام الأبيض الناصع الذى يغريك جماله بالتأمل كثيراً، ولسانك فاكر عظمة إبداع الله فى خلقه. ولا أظن أن أحداً خلال المائتى سنة من عمر الحديقة قد واتته الجرأة لقطع شجرة من تلك الأشجار التى تجبرنا على احترامها بقوتها ورسوخها ونصاعة بياضها كما لو كانت مسلة عظيمة من مسلات الفراعنة التى تفتخر بعض الدول بأنها نقلتها من مصر الى أكبر ميادينها فتلفت إليها الأنظار تيهاً وعجباً. وقد زرع اليونانيون فى الإسكندرية نوعاً من الأشجار الخضراء القريبة منها فى طولها وجمال سيقانها وأفرعها وأوراقها اليانعة والتى نشاهدها يومياً من النافذة التى تطل على مبنى قناة السويس فى طريق الحرية بالإسكندرية ويطلقون عليها شجرة «الألوكاريا» ويبلغ ارتفاعها أكثر من أربعة طوابق فى العمارة المجاورة.. ولكن أختها فى الجانب الآخر من الحديقة كانت قليلة البخت إذ توقف نموها بسبب وجود كسر فى أعلاها تدلى ميتا من قمتها.. وكنت كلما نظرت اليها حزنت من أجلها، إلى أن التفت اليها القائمون على الحديقة وصعدوا لقمة الشجرة وأزالوا عائق نموها لتدب فيها الروح وتبدأ فى النمو ونشر أفرعها الخضراء الجميلة.. وعندها شكرت الله سبحانه وتعالى وشكرت قناة السويس على حسن صنيعها بالشجرة. ونسيت للحظة أن للشجرة حرمة وكنت فى مدينة سيراكوزا الايطالية وأعجبتنى شجرة ياسمين تتدلى فروعها خارج أسوار الفيلا.. فمددت يدى وقطفت ياسمينة.. وإذا بالدنيا تنقلب رأساً على عقب بانطلاق صفارات مستديمة كصراخ الطفل أو المرأة وأصيبت بإحراج شديد ونظرت حولى أستطلع السبب فأشار الىَّ أحد الجيران بأننى قطفت ياسمينة من الشجرة دون إذن أصحابها.. وتنفست الصعداء كما يقولون وقلت ياللهول كما قالها يوسف بك وهبى.. اتصل حماية الأشجار إلى هذه الدرجة؟؟!! وصاحبتنى حماية الأشجار والحيوانات مثلما صاحبتنى حماية حقوق الإنسان.. وكانت أشجار طريق الحرية الرئيسى بالإسكندرية تزين الطريق على الجانبين وتملأ الأجواء بأريجها المنعش وبالأوكسجين فضلاً عن نصاعة خضرة أوراقها الكثيفة وخاصة عندما تنزل عليها أمطار الإسكندرية وما أكثرها.. الى أن فوجئت بعربات البلدية تقطع فروع شجرتين كبيرتين أمام مبنى قناة السويس لدرجة استخدام المنشار الكهربائى لقطع الأفرع الطويلة الغليظة وأصبحت الشجرتان بلا أفرع ولا أوراق، كانت مئات العصافير تعشش فيهما وأسمع زقزقتها بعد صلاة الفجر ثم عند عودتها الى الأشجار قرب المساء وكل فيها يعرف عشه وقشه وبيضه وفراخه الصغيرة التى كنت أراها من شرفة البيت تحاول أن تطير مثلما يحاول صغار أحفادى أولى خطوات المشى.. وكنت أحنو عليها مثلما أحنو على أحفادى حتى تعود اليها أمهاتها فى المساء.. ولكن المساء المشهود بعد قطع كل أفرع الشجرة وإسقاطها بأوراقها وما تحتويه من حيوانات ضعيفة كان بمثابة الصاعقة على العصافير الأم.. لعل أحداً لم يتأثر قلبه عليها.. ولكن قلبى قد آلمنى كثيراً وتمنيت لو أن المسئولين عن أشجار الشوارع بالإسكندرية قد جعلوا تقليم تلك الأشجار خفيفاً من أجل التجميل فقط مع الحفاظ على الأحياء البرية التى أناقش قريباً رسالة دكتوراه فى القانون بكلية الحقوق بعنوان «حماية الحياة البرية» وهى عالم كبير من عوالم خلق الله لا يدركه إلا الدارسون الذين يتقوى إيمانهم بالله وهم يرددون «وإن من شىء إلا يُسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم» صدق الله العظيم.