ينزع المتخصصون إلى تعريف الخطاب بأنه تلك الرسالة التي تحوي رأيًا أو خبرًا أو تصورًا أو موقفًا أو وجهة، وذلك عن طريق آلية مباشرة أو غير مباشرة لنقل المحتوى والمضمون إلى المستقبِل أو القارئ، وتختلف لغة الخطاب تبعًا للثقافة السائدة الحاوية للمرسل والمستقبل معًا. أما الخطابات غير المباشرة فهي تلك التي تلجأ إلى الرمز أو التضمين أو الإحالة أو الإشارة. الأمر الذي يجعل منها خطابات مستغلقة على القارئ أو المتلقي، لأنها تحتاج إلى مهارة لفك الرمز وكشف المعاني والمفاهيم المستترة وراء المنطوق أو المصور أو المرسوم أو الإشارات والعلامات. وإذا ما انتقلنا إلى النقد فسوف نجد له ضروباً عدة منها المقارنة والمقابلة لإبراز الأصيل والمنتحل ثم النقد المعياري الذي يستند إلى الأصول الفنية أو القيم السائدة أو الثوابت التي تشكل بنية العقل الجمعي في ثقافة ما، وأخيرًا نجد مدارس النقد المعاصرة نذكر منها النقد الثقافي والنقد النسقي والنقد الذاتي الانطباعي ونقد النقد. وإذا ما انتقلنا من النظر إلى التطبيق فسوف ندرك أن ثقافتنا المعاصرة قد افتقرت إلى الآداب والضوابط الحاكمة للخطاب الناقد، فمعظم نقودنا في الفن والدين والعلم والأخلاق والسياسة أضحت تعبر عن صورتين كليهما مذموم، أولهما صورة المدح الذي يدفع بصاحبه إلى مستنقع الرياء والنفاق وينعكس ذلك على المتلقي بالسلب فيعملق الأقزام ويثبط الهمم ويحبط الموضوعيين والعلماء المهمشين. والصورة الثانية تبدو رذيلة القدح والشتم والنقض، الأمر الذي يهبط بصاحب الخطاب إلى بركة السفالة والوضاعة، وبين هاتين الصورتين نفتقد إلى الخطاب الناقد الذي يجب أن يضطلع به المجتهدون من المستنيرين والمجددين والمصلحين. وشتان بين المجترئ والمجتهد.. فعندما يعترض أحد الخطابات على ذلك التلوث الذي أصاب فنوننا (الغناء – التمثيل – التصوير) وينقد ما فيها من ابتزال وركاكة ومجون وعُري وعنف، فإنه في هذه الحالة يعبر عن اجتهاد مصلح يدافع عن القيم المسئولة عن توجيه المجتمع وحمايته من الجراثيم التي تهدد تماسكه وسلامة قيمه وعندما نجد أحد الأقلام يهاجم التراث بمعول الهدم لا يمكننا إدراجه ضمن المجتهدين، وذلك لأنه خالف ضوابط النقد، فالقول بضرورة حرق كتب الحديث وفتاوى ابن تيمية لا يعبر عن لغة التقويم، وذلك لأن بعض ما يراد حرقه يدخل في باب الاجتهاد فجُمَّاع الحديث اجتهدوا في التقصي والتحري عن صحة ما يروون وذلك قدر طاقتهم وعلمهم ومن ثم إذا ما أردنا نقدهم نأتي بنهج أقوم يمكننا من تحليل المتون واستبعاد ما يتناقض منها مع قطعي الثبوت وقطعي الدلالة في القرآن، وفي هذه الحالة نقبل اعتراض المعترضين شأن الشيخ عبدالمتعال الصعيدي ومن قبله الأستاذ الإمام محمد عبده ومن بعدهما محمد الغزالي. وكذا فتاوى ابن تيمية فهي لا تخلو هي الأخرى من الاجتهاد المحمود ولاسيما باب الطلاق ومعاملة الذميين وقبول شهادتهم وتسامحه مع الصوفية وتغليبه المنطق والحجج العقلية على المرسل من الأخبار والأحكام، وذلك مع تسليمنا بأن هاتيك الفتاوى شاغلة بآراء لا تصلح لزمننا، وأن جانبًا غير قليل منها يمكن إدراكه ضمن الآراء المتشددة والمتعصبة والمغايرة لحقيقة الأصولية الإسلامية السمحة فإن ابن تيمية في هذه الحالة مجتهد أخطأ وأصاب شأنه شأن البخاري من قبله الذي أحسن وأجاد في بعض ما جمع ولم يوفق وأخطأ في جمع البعض الآخر وشتان بين التجديد والتبديد، فآراء العلماء والمجتهدين ينبغي أن تؤخذ برفق على مائدة النقد من قبل أصحاب الدربة والدراية، فكل صاحب رأي يؤخذ منه ويرد إلا المعصومين وهم معشر الأنبياء، أما سفسطة المتعالمين فيجب أن تنقض لافتقارها إلى ضوابط النقد، وكيف لنا أن نستبيح حرق كتب من نختلف معهم من العلماء ونأسف في الوقت نفسه على محاولة المتعصبين حرق كتب المعتزلة، وابن حزم، وابن رشد، أو مصادرة كتب طه حسين، وإسماعيل مظهر، وعلي عبدالرازق، وفرج فودة. وإذا ما انتقلنا إلى مؤسساتنا التعليمية فسوف نجد فسادًا ممنهجاً يستوجب النقد والنقض معًا بداية من واضعي المناهج والقائمين على تدريسها ونهاية بالمتعلمين الذين رضوا على عقولهم أن تكون مجرد آنيات حافظة ومستودعات للتلقين بمنأي عن آليات النقد ومناهج الاستيعاب التي تستثمر القدرات الذهنية لخلق الأفكار المبدعة، ولا تخلو جامعاتنا من تلك الأدران ورؤساء على شاكلة شخصية (مرجان أحمد مرجان) الذي اتخذ من (الشاي بالياسمين) آلية لقضاء مصالحه فيستأجر أقلام الإعلاميين للترويج له تارة وإبراز إنجازاته تارة أخرى، وتنصب جهوده في التأنق في المظهر وبناء الحجر، ويفسد في الوقت نفسه المخَبر وينكل بالنابهين من البشر، ولا يعني ذلك عدم تعويل الناقد على الأدلة والبراهين قبل أن يلقي بنقوده واتهاماته على الشرفاء والمجتهدين فالبيِّنة على من ادّعى والدليل على من أنكر. أما الأخلاق والسياسة فحدِّث ولا حرج فقد أصبحت الخطابات النقدية التي تتناول قضاياهما أنموذجًا للتردي والبذاءة أحيانًا والجهل والحنق أحيانًا أخرى، ذلك فضلا عن الخطابات الموجهة التي يرمي أصحابها إلى الإفساد وتضليل المتلقي وتزييف الوعي الجمعي وتحريض العوام على العنف والإرهاب، ولا يجوز إدراج التطاول والتهديد والشتم ضمن الخطابات النقدية السياسية، ولا التحريض على الفوضى وإثارة الرأي العام باسم الحرية، فعلى أصحاب هذه الخطابات دراسة الواقع المعيش بكل جنباته وأوضاعه قبل إرسال خطاباتهم التي يمكن وصفها بالتطرف والجنوح والاجتراء، وذلك لأنها تفتقر إلى آداب وضوابط النقد معا. وحري بي أن أؤكد أن القلم الناقد أداة للبناء وليس مِعْوَلاً للهدم، فالنقد عطاء ودرب من الإصلاح ينبغي أن نُفعِّله ونحرص على وجوده حُرًا طليقًا مع الالتزام بحدوده التي لا ينبغي علينا أن نتعداها.