من عجائب الأقدار في هذه الظروف الحرجة التي يحياها الإسلاميون غياب الحديث المنصف والنقد الموضوعي والاستدراج الى مستنقع السباب ومنحدر الشتائم وأصبح كل من ينصح اخاه عرضة لشتيمة تأتيه من هنا او سب يقذفه من هناك لا ذنب له سوى مجاهرته برأي في نازلة لم تكن في أسلافنا وليس لها سبق في تراثنا وأضحى كثير من اهل الرأي يخافون من اللجان الإلكترونية اكثر من اللجان الأمنية يعيشون في خوف من إرهاب فكري يتهمهم بالدياثة الفكرية أو الخنوثة الدينية في امر اجتهادي غير مجمع عليه. يا قومنا نحن في محنة شديدة .. لا أقصد المحنة السياسية فذاك امر مما سارت به الركبان وإنما اتحدث عن الأزمة الاخلاقية التي تلبس بها كثير ممن يدعون الناس إلى مشروع إسلامي واعد فإذا بهم يشتمون ويسبون ويعيرون ويشمتون ويفضحون ويهتكون الأستار ويكذبون ويدعون كذبا متناسين بذلك أن الإسلاميين في أصل رسالتهم هم دعاة رحمة للمجتمع يسترون عيوبه ويخففون عنه احزانه يجد فيهم المجتمع عفة اللسان وبراءة الحديث وبشاشة المحيا مهما قسى عليهم وجفا لقد اخترت أن اكتب عن موضوع شائك وهو فتوى الشيخ ياسر البرهامي لكن بنفس علمي ومنهج نقد موضوعي احرر فيه موضع النزاع واشخص الخطأ وأضع يدي على الخلل وأنصح إخواني إعذارا إلى الله وإقامة للحجة واستفاضة للبلاغ لا ابتغي من ذلك الا الله والدار الآخرة فانا لم التق بالدكتور ياسر البرهامي يوما ولم انتسب إلى الدعوة السلفية لحظة وإن كنت اتشرف بانتسابي الى السلف رضوان الله عليهم جملة وتفصيلا، لقد اطلعت على ما جاء في فتوى (عجز الرجل عند اغتصاب زوجته) واستمعت لها فكانت لي الوقفات الآتية: أولا: أن ما قام به الدكتور البرهامي في إجابته لصاحب فتوى اغتصاب الزوجة يسمى عند الأصوليين تحقيق مناط حكم شرعي وهو نوع من انواع الاجتهاد المشهور لدى العلماء تحدث عنه الشاطبي فقال (فأما الأول فهو الاجتهاد المتعلق بتحقيق المناط ، وهو الذي لا خلاف بين الأمة في قبوله ، ومعناه أن يثبت الحكم بمدركه الشرعي لكن يبقى النظر في تعيين محله) وهو ما عبَّر عنه ابن تيمية بقوله :" أن يعلق الشارع الحكم بمعنى كلي فينظر فى ثبوته في بعض الأنواع أو بعض الأعيان ؛كأمره باستقبال الكعبة ، وكأمره باستشهاد شهيدين من رجالنا ممن نرضى من الشهداء ، وغير ذلك ، فيبقى النظر في بعض الأنواع : هل هي خمر ، ويمين ، وميسر ، وفدية أو طلاق ؟" وهو يعني أن الحكم الشرعي المجرد بعد استنباطه وفهمه ، وإدراك حقيقته وتعيين مناطه ، بحاجة إلى ربطه بأفعال المكلَّفين ، ونقله من حيز التنظير والتصورات الذهنية إلى ميدان الحياة والواقع، الذي تصبح معه الأحكام الشرعية ماثلة في أفعال الناس وتصرفاتهم، ومن أهم أسباب الخطأ في تحقيق مناط الأحكام. ثانيا: أن ما أفتى به الدكتور ياسر له أصل شرعي عام يرجع إليه فالأمة متفقة على ترتيب الضروريات بتقديم النفس على العرض وقد نقل البوطي الإجماع على ذلك كما أن الشافعية اجازوا الدفاع عن العرض بشروط ونص على ذلك العز ابن عبد السلام فالفتوى في مستوى التجريد لها أصل ترجع إليه ومن ثم فلا تعد من قبيل الفتوى الشاذة او الفتوى التي لم تجر على أصول الاجتهاد. ثالثا: أن الدكتور البرهامي نزل الواقعة على أصل كلي وهو تعارض ضرورتين من الضرورات الخمس وهما النفس والنسل وانه يجوز للسائل أن ينجو بنفسه إذا عجز عن استنقاذ زوجته ومن هنا جاء الخطأ في الفتوى – فيما نرى- بمعنى انه تم ارجاعها على غير أصلها لان احد أهم اسباب الخلل في تحقيق مناط الاحكام اختلاط بعض الصور والوقائع وترددها بين أكثر من أصل شرعي ، بحيث يظهر للمجتهد أن الواقعة أو القضية محل النظر تتنازعها عدة قواعد وأحكام كلية وأصول عامة ، وأنها لم يتمحض كونها جزئية لأصل واحد فقط ، بسبب تحقق مناطات وأوصاف مختلفة فيها . وفي هذه الحالة يمكن أن تختلف أنظار المجتهدين وتقديراتهم ؛ إذ يطبق بعضهم عليها أصلاً عاماً ، و يطبق آخرون أصلاً آخر يجدونه أقرب، وأكثر اتصالاً والتصاقاً بالواقعة محل النظر. والأصح في رأينا ان الأمر ليس متعلق بتراتبية الضرورات الخمس عند التعارض ولا الموازنة هنا بين ضرورة واخرى بقدر ما نحن بصدد صورة استثنائية مستقلة من صور(دفع الصائل) خارجة عن الأصل لاعتبارات كثيرة من اهمها: قوة الأدلة الخاصة بها قوله صلى الله عليه وسلم: (من قتل دون أهله فهو شهيد)، ومنها اتفاق العلماء على وجوب دفع الصائل عن العرض ولو أدى ذلك إلى قتله قال النووي: (وأما المدافعة عن الحريم؛ فواجبه بلا خلاف) وجاء في كتاب الفقه الإسلامي وأدلته (وهذا الدفاع الواجب قد يكون من قبل المرأة التي هي بصدد الاعتداء على شرفها، أو من قبل زوجها أو أقاربها، أو من قبل أي مسلم لا يمت إليها بقرابة، وذلك لأن الأعراض حرمات الله في الأرض، ولا سبيل لإباحتها بحال) وقال ابن تيمية رحمه الله: (وأما إذا كان مطلوبه - أي الصائل – الحرمة، مثل أن يطلب الزنا بمحارم الإنسان، أو يطلب من المرأة أو الصبي المملوك أو غيره الفجور به، فإنه يجب الدفع عن نفسه بما يملكه ولو بالقتل، ولا يجوز التمكين بحال) ولعدم الوقوع في حرج لا تقبله النفوس السوية فالإنسان مجبول على التضحية بعرضه وتصور هروب الغيور مع ترك عرضه ينهش امر تستفحشه النفوس الابية ولما قد تؤدي إليه هذه الفتوى من الاستهانة بالاعراض والحرمات فالظروف الضرورية والحاجية التي تكتنف بعض الأفراد عند تطبيق الأحكام عليها ، تستدعي إفرادهم بحكم خاص على سبيل الاستثناء والترخص ، وعدم تطبيق الأحكام العامة التي تجري على غيرهم من المكلَّفين وهذا ما اشار اليه الشاطبي بقوله :"إن الأصل إذا أدَّى القول بحمله على عمومه إلى الحرج أو إلى ما لا يمكن عقلا أو شرعاً، فهو غير جار على استقامة ولا اطراد، فلا يستمر بإطلاق ) كما ذهب الإمام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم في مسألة طواف الإفاضة للحائض التي تخاف فوات الرفقة ،حيث ذهبا إلى أن قوله -صلى الله عليه وسلم- : "اصنعي ما يصنع الحاج غير أن لا تطوفي بالبيت " إنما يتعلق بالمرأة في وقت السّعة والاختيار، وأنه لا يصح تطبيق هذا الحكم على الحائض التي إن لم تطف بالبيت فستفوتها الرفقة . وهذا ما وضحه ابن القيم بقوله :" فظنّ من ظنّ أن هذا حكم عام في جميع الأحوال والأزمان ولم يفرق بين حال القدرة والعجز ، ولا بين زمن إمكان الاحتباس لها حتى تطهر وتطوف، وبين الزمن الذي لا يمكن فيه ذلك ، وتمسّك بظاهر النص ، ورأى منافاة الحيض لعبادة الطواف كمنافاته للصلاة والصيام " ولأن الصورة المستفتى عليها اشتملت على ضميمة أخرى وهي بالإضافة إلى الدفاع عن العرض وهي ضميمة الشرعية في الدفاع عما هو من حق الإنسان أن يدافع عنه بكل حال ومن ثم فمقتضى تحقيق مناط الفتوى (دفع صائل) يوجب على الرجل المستفتي الذب عن زوجته حتى وإن أدى ذلك لقتله لأنه لا يدافع عن عرضه فحسب وغنما يدافع عن شرعية المجتمع في الحفاظ على شرعية ممتلكاته من مال وعرض. رابعا: ومع ما سبق نقول إن الاجتهاد في تحقيق مناط الحكم هو نوع من انواع الاجتهاد الذي يعذر فيه صاحبه والاختلاف فيه يبقى قائماً بين العلماء ، ولا يمكن حسمه ، لأن طبيعة تحقيق المناط فيها مساحة للاجتهاد في تقدير المجتهد ،وفي نظره واعتباره والخطأ فيه وارد بل هو أكثر صور اختلاف العلماء فيما بينهم لأنهم قد يتفقون في تفسير النصوص واحكامها المجردة لكنهم يختلفون اختلافا كبيرا في إسقاط الاحكام على مسمياتها ومن جملة ذلك على سبيل المثال: اختلف الفقهاء في العقوبة التي يستحقها النبَّاش ، الذي ينبش القبور ليأخذ أكفان الموتى ، هل يقام عليه حد السرقة بوصفه سارقاً ، أو تقام عليه عقوبة تعزيرية ، لأن معنى السرقة لم يتحقق فيه؟ اختلف الفقهاء في حكم بيع الوفاء ، وفي وصفه الشرعي المناسب له ، بسبب تردده بين أكثر من عقد ؛إذ إن له شبهاً بعقد البيع الصحيح ، كما له شبه بعقد البيع الفاسد ، وله شبه آخر بعقد الرهن والامثلة على ذلك كثيرة. خامسا- أن صاحب الخطأ في هذا النوع من الاجتهاد وهو الاجتهاد بتحقيق المناط لا يجوز التشهير به أو الانتقاص من قدره لأن فتواه جرت على مجاري الاجتهاد ومسالكه ولنفترض جدلا ونزولا على قول البعض انها زلة وفتوى شاذة فلا يجوز ابدا التشهير بصاحبها فما بالنا إذا كان قولا له اصل شرعي يرجع عليه غير ان الخطا جاء من جهة تحقيق مناطه قال ابن تيمية : ( ليس لأحد أن يتبع زلات العلماء كما ليس له أن يتكلم في أهل العلم و الإيمان إلا بما هم له أهل ) و قال الإمام الذهبي في ترجمة الإمام محمد بن نصر المروزي : ( و لو أنا كلما أخطأ إمام في اجتهاده في آحاد المسائل خطأً مغفوراً له قمنا عليه و بدَّعناه ، و هجرناه ، لما سلم معنا ابن نصير ، و لا ابن مندة ، و لا من هو أكبر منهما ، و الله هو هادي الخلق إلى الحق ، هو أرحم الراحمين ، فنعوذ بالله من الهوى و الفظاظة ) قال الصنعاني ( وليس أحد من أفراد العلماء إلا وله نادرة ينبغي أن تغمر في جنب فضله وتجتنب ) سادسا- من أكثر طامات الواقع الإسلامي المرير هو تصفية الحسابات السياسية من خلال الربط بين فتوى العالم ومرجوحيته فيها وبين ديانته ومروءته وصفاء طويته وهذا أمر لم تمر به الأمة عبر تاريخ حراكها الفكري فالاجتهاد الصحيح له منهجيته التي يسير عليها لتصدر في النهاية فتواه إما راجحة أو مرجوحة ولا علاقة لذلك بنخوة العالم او مروءته لكننا وجدنا في ايامنا هذه من يتهم الدكتور ياسر أو من يخالفه في موقف سياسي بالدياثة او الليونة في العرض لمجرد أنه أخطأ في فتوى او سقط في رأي – إن حدث هذا- وعلى هذا المنهج الذي تتبعه الكتائب الإلكترونية لا ندري كيف ستكون مروءة ابن تيمية عند هؤلاء بسبب قوله بجواز إرضاع الكبير للحاجة وكيف كان سينجو من اتهامه بالفحش ونشر الفسوق في بيوت المسلمين بسبب هذه الفتوى ولاتهمناه بنشر الخديعة والكذب واستغلال الدين في إشباع النزوات الرجال بإجازته لرجل (ركَّاض) يتقلب في البلاد للزواج بنية الطلاق ولاتهمنا ابن القيم بما لا يليق في عرضه حيث قال "وفي قصة سالم مسلك آخر، وهو أن هذا كان موضع حاجة فإن سالما كان قد تبناه أبو حذيفة ورباه ولم يكن له منه ومن الدخول عل أهله بد، فإذا دعت الحاجة إلى مثل ذلك فالقول به مما يسوغ فيه الاجتهاد، ولعل هذا المسلك أقوى المسالك وإليه كان شيخنا يجنح" وعلى منهج اتهام مروءة العالم بمجرد الخطأ في فتوى ما سلم ابن حزم من الاتهام بالفحش ورقة الدين لقوله بجواز سماع المعازف ولا أدري كيف كانت اللجان الإلكترونية ستصف إبراهيم النخعي ، و أبو جعفر الطحاوي ، وسفيان الثوري لإجازتهم شرب النبيذ ولا تهمنا أبا حنيفة بفك الروابط الأسرية وخروج البنت عن طوع أبيها بإجازة زواج المرأة بغير أذن وليها..خلاصة القول أننا بحاجة إلى مراجعة أخلاقية قبل ان نبحث عن حكم الناس والهيمنة على حياتهم...