يوافق اليوم ذكرى ميلاد صانع القومية والعروبة، وثاني رؤساء مصر، إنه الرئيس الراحل جمال عبد الناصر، والذى يعتبره مؤيدوه فى جميع أنحاء الوطن العربى رمزا للكرامة والوحدة العربية، ويعد واحداً من أبرز قادة ثورة 23 يوليو 1952، والتي أطاحت بالملك فاروق. ميلاده: ولد جمال عبد الناصر في 15 يناير 1918م، في حي باكوس بالإسكندرية قبيل أحداث ثورة 1919 في مصر، وهو ينتمى إلى أصول صعيدية. وبدأ نشاط عبد الناصر السياسي عقب انضمامه لمظاهرة في ميدان المنشية بالإسكندرية، دون معرفته بمطالبها، وألقي القبض عليه وتم احتجازه مدة ليلة كاملة، قبل أن يخرجه والده، ثم علم بعد ذلك أن هذا الاحتجاج كان من تنظيم جمعية مصر الفتاة، للتنديد بالاستعمار الإنجليزي في مصر، وذلك في أعقاب قرار من رئيس الوزراء حينئذ إسماعيل صدقي بإلغاء دستور 1923. وعقب انتقال والده إلى القاهرة في عام 1933، التحق بمدرسة النهضة الثانوية بحي الظاهر بالقاهرة، ومثل في عدة مسرحيات مدرسية، كما كتب العديد من المقالات بمجلة المدرسة، منها مقالة عن الفيلسوف الفرنسي فولتير بعنوان "فولتير، رجل الحرية". بدأ نشاطه السياسي: ظهرت على ناصر ميول الزعامة منذ طفولته، وفي 13 من نوفمبر 1935، قاد مظاهرة طلابية ضد الحكم البريطاني احتجاجا على البيان الذي أدلى به "صمويل هور" وزير الخارجية البريطاني، والذي أعلن خلاله رفض بريطانيا لعودة الحياة الدستورية في مصر. واعترض بشدة على المعاهدة البريطانية المصرية لسنة 1936، والتي تنص على استمرار وجود قوات عسكرية بريطانية في البلاد، برغم تأيد القوات السياسية في مصر حينئذ لهذه المعاهدة بالإجماع. حياته العائلية: تزوج ناصر من السيدة تحية كاظم عام 1944، والتى ولدت لأب إيراني ثري وأم مصرية، وكلاهما توفيا عندما كانت صغيرة، وأنجب منها خمسة أبناء هم: "خالد، وعبد الحكيم، وهدى، وعبد الحميد، ومنى". حياته العسكرية: تقدم عبد الناصر إلى الكلية الحربية لتدريب ضباط الجيش، عام 1937، ولكن الشرطة سجلت مشاركته في احتجاجات مناهضة للحكومة، فمنع من دخول الكلية، فالتحق بكلية الحقوق في جامعة الملك فؤاد "جامعة القاهرة حاليا"، ثم استقال بعد فصل دراسي واحد وأعاد تقديم طلب الانضمام إلى الكلية العسكرية، واستطاع مقابلة وزير الحربية إبراهيم خيرى باشا، الذى وافق على انضمامه للكلية العسكرية في مارس 1937. وركز ناصر على حياته العسكرية منذ ذلك الحين، والتقى خلالها برفقاء دربه عبد الحكيم عامر وأنور السادات، وكلاهما أصبحا مساعدين مهمين له خلال فترة رئاسته. وتخرج من الكلية العسكرية في يوليو 1937، وتم ترقيته إلى رتبة ملازم ثاني في سلاح المشاة، وفى عام 1941 طلب الانتقال إلى السودان حيث كانت وقتها جزءًا من مصر، ليعود من السودان في سبتمبر 1942، ثم حصل على وظيفة مدرب في الأكاديمية العسكرية الملكية بالقاهرة في مايو 1943. وبدأ ناصر بتشكيل مجموعة من ضباط الجيش الشباب الذين يملكون مشاعر وطنية قوية، وظل على اتصال معهم من خلال عبد الحكيم عامر. معاركه: خاض ناصر أول معركة حربية في فلسطين عام 1948، عندما أرسل الملك فاروق الجيش المصري إلى فلسطين، وكان ناصر نائب قائد القوات المصرية المسؤولة عن تأمين الفالوجة وقتها، وأصيب بجروح طفيفة في القتال يوم 12 يوليو، وبحلول شهر أغسطس، تمت محاصرته مع فرقته من قبل الجيش الإسرائيلي، ولكن الفرقة رفضت الاستسلام إلى أن أدت المفاوضات بين إسرائيل ومصر إلى التنازل عن الفالوجة إلى إسرائيل. عاد عبد الناصر بعد الحرب إلى وظيفته مدرسًا في الأكاديمية الملكية العسكرية، وأرسل مبعوثين إلى جماعة الإخوان المسلمين، لتشكيل تحالف معها في أكتوبر سنة 1948، ولكنه اقتنع بعد ذلك بأن جدول أعمال الإخوان لم يكن متوافقاً مع نزعته القومية، وبدأ الكفاح من أجل منع تأثير الإخوان على أنشطته. اختير ناصر عضوا في الوفد المصري إلى رودس في فبراير 1949 للتفاوض على هدنة رسمية مع إسرائيل، والتى رأى شروطها مهينة، وخاصة لأن الإسرائيليين تمكنوا من احتلال منطقة إيلات بسهولة. حركة الضباط الأحرار: اعتمد ناصر مجموعة من الضباط السريين تحت اسم "حركة الضباط الأحرار"، وقام بتنظيم "اللجنة التأسيسية لها والتى تألفت من أربعة عشر رجلاً من مختلف الخلفيات السياسية والاجتماعية، بما في ذلك ممثلين عن الشباب المصريين، والإخوان المسلمين، والحزب الشيوعي المصري، والطبقة الأرستقراطية، وانتخب ناصر رئيسا للجنة بالإجماع، وظل نشاطهم مقتصرا - مدة تقارب العامين - على تجنيد الضباط ونشر المنشورات السرية. ثورة يوليو 1952: انطلقت الثورة يوم 22 يوليو وأعلن نجاحها في اليوم التالي، واستولى الضباط الأحرار على جميع المباني الحكومية، والمحطات الإذاعية، ومراكز الشرطة، ومقر قيادة الجيش في القاهرة، وتم إلغاء النظام الملكي وأعلن قيام الجمهورية في مصر، وحكم الضباط الأحرار باسم "مجلس قيادة الثورة" ليكون اللواء محمد نجيب أول رئيساً، وجمال عبد الناصر نائباً له. وقام عبد الناصر بإجراء العديد من الإصلاحات قانون الإصلاح الزراعي، وإلغاء النظام الملكي، وإعادة تنظيم الأحزاب السياسية، وفي يناير 1953، قام بحظر جميع الأحزاب السياسية، وخلق نظام الحزب الواحد. وصوله للرئاسة: وصل عبد الناصر إلى الحكم عقب محاولة محمود عبد اللطيف أحد أعضاء جماعة الإخوان المسلمين اغتيال عبد الناصر، عندما كان يلقى خطاباً في الإسكندرية للاحتفال بالانسحاب العسكري البريطاني في 26 أكتوبر 1954، فأطلق عليه ثماني طلقات، لم تصبه. واندلعت حالة من الذعر بين الجمهور، لكن ناصرا رفع صوته وطلب من الجماهير الهدوء، وصاح فيهم قائلا: "فليبق كل في مكانه أيها الرجال، حياتي فداء لكم، دمي فداء لكم، سأعيش من أجلكم، وأموت من أجل حريتكم وشرفكم، إذا كان يجب أن يموت جمال عبد الناصر، يجب أن يكون كل واحد منكم جمال عبد الناصر، جمال عبد الناصر منكم ومستعد للتضحية بحياته من أجل البلاد". وتعالت صيحات التشجيع لعبد الناصر في مصر والوطن العربي، وأتت محاولة الاغتيال بنتائج عكسية، وبعد عودته إلى القاهرة، أمر بشن حملة من أكبر الحملات السياسية في التاريخ الحديث لمصر، وتم اعتقال الآلاف من المعارضين، معظمهم من أعضاء جماعة الإخوان المسلمين والشيوعيين، وتمت إقالة 140 ضابطا موالياً لنجيب، وحكم على ثمانية من قادة الإخوان بالإعدام، وخلع محمد نجيب من رئاسة الجمهورية، ووضع تحت الإقامة الجبرية، وبعد تحييد منافسيه، أصبح عبد الناصر الزعيم بلا منازع في مصر. قام ناصر بفرض ضوابط على الصحافة، والإعلان عن ضرورة موافقته على محتويات النشر بالصحف لمنع الفتنة، كما قام العديد من الفنانين مثل أم كلثوم وعبد الحليم حافظ، وبعض المطربين العرب البارزين في هذا العصر بغناء عدة أغاني تشيد بقومية عبد الناصر، وبدأت القومية العربية تظهر بشكل متكرر في خطاباته خلال عامي 1954 - 1955. تمت صياغة الدستور الجديد لمصر في يناير 1956، والذي تضمن إنشاء نظام الحزب الواحد في إطار "الاتحاد الوطني"، وتم ترشيح عبد الناصر لمنصب رئاسة الجمهورية، وطرح الدستور الجديد للاستفتاء العام يوم 23 يونيو، وحاز كلاهما على الموافقة، فأصبح رئيساً رسميا للجمهورية باستفتاء شعبي ساحق يوم 24 يونيو 1956. إنجازاته وشعبيته: اشتهر عبد الناصر بسياسته المحايدة خلال الحرب الباردة، مما أدى إلى توتر العلاقات مع القوى الغربية، التي سحبت تمويلها للسد العالي، الذي يخطط لبنائه، فأعلن فى خطاب له بالإسكندرية يوم 26 يوليو 1956، عن تأميم شركة قناة السويس، رداً على عدم استجابة الولاياتالمتحدةالأمريكية، وبريطانيا لتمويل مشروع سد أسوان. وأكد خلال خطابه على أهمية التمسك بحق الشعب المصري في السيادة على الممر المائي، ليكتسب ناصر شعبية كبيرة، ويُصبح "القائد الكاريزمي" و"المتحدث باسم الجماهير العربية كلها وليس المصريين فقط. واعترف مجلس أمن الأممالمتحدة في أوائل أكتوبر، بحق مصر في السيطرة على القناة ما دامت مستمرة في السماح بمرور السفن الأجنبية من القناة، وكان التبرير الرسمي لتأميم القناة أن الأموال الناتجة من القناة ستستخدم لتمويل بناء السد في أسوان، وفي اليوم نفسه أغلقت مصر القناة أمام الملاحة الإسرائيلية، وكان يعد ذلك انتصارا كبيرا لقومية عبد الناصر العربية، وبعد فترة قصيرة انتشرت صوره ولوحاته في خيام اليمن، ومراكش، وسوريا. وأثار قرار تأميم القناة غضب الدول الغربية، وأدى إلى احتلال بريطانيا، وفرنسا، وإسرائيل لسيناء، وفي الوقت نفسه رفع من أسهم عبد الناصر السياسية بشكل ملحوظ، ونمت شعبيته في المنطقة بشكل كبير، وتزايدت الدعوات إلى الوحدة العربية تحت قيادته، وتحقق ذلك بتشكيل الجمهورية العربية المتحدة مع سوريا عام 1958 - 1961. وبدأ عبد الناصر سلسلة من القرارات الاشتراكية والإصلاحات التحديثية في مصر منذ عام 1962، وعلى الرغم من النكسات التي تعرض لها قضيته القومية العربية، قدم ناصر دستورا جديدا في سنة 1964، وهو العام نفسه الذي أصبح فيه رئيسا لحركة عدم الانحياز الدولية. وتولى ناصر ولايته الرئاسية الثانية في مارس 1965، بعد انتخابه بدون معارضة، وتبع ذلك هزيمة مصر من إسرائيل في حرب الأيام الستة سنة 1967، واستقال عبد الناصر من جميع مناصبه السياسية على أثر هذه الهزيمة، ولكنه تراجع عن استقالته بعد مظاهرات حاشدة طالبت بعودته إلى الرئاسة. وكافح ناصر من أجل إقامة العدالة الاجتماعية، والذي اعتبرها شرطا أساسيا لتحقيق الديمقراطية الليبرالية، وخلال رئاسته، تمتع المواطنون العاديون بمزايا غير مسبوقة في السكن والتعليم وفرص العمل والخدمات الصحية والتغذية، فضلا عن العديد من أشكال الرعاية الاجتماعية، في حين تراجع نفوذ الإقطاعية. ونما الاقتصاد الوطني بشكل كبير من خلال الإصلاح الزراعي، ومشروعات التحديث الكبرى مثل صلب حلوان وسد أسوان، وتأميم قناة السويس. وشهدت مصر خلال فترة رئاسته "العصر الذهبي" للثقافة وفقا للمؤرخ جويل غوردون، وبرز خلال هذه الفترة العديد من الرموز والشخصيات الثقافية. وفاته: توفى عبد الناصر يوم 28 سبتمبر 1970، إثر إصابته بنوبة قلبية، ليصاب جموع شعب مصر والمنطقة العربية بصدمة، وأعلنت المنطقة العربية بأكملها الحداد، ورثاه الكثير من الشُعراء والمُفكرين بعد وفاته، ومن أبرزهم الشيخ محمد متولي الشعراوي، ونزار قباني. وشيع جنازته ما يزيد عن خمسة ملايين مشيع، حيث حضر جميع رؤساء الدول العربية، باستثناء العاهل السعودي الملك فيصل، بالإضافة إلى عدد قليل من الشخصيات غير العربية الكبرى، ليدفن بمسجد النصر، والذي تم تغيير اسمه فيما بعد ليصبح مسجد عبد الناصر.