غم مضي 44 عاما على رحيل الرئيس جمال عبد الناصر مازال الجدل مستمرا حول تجربته التاريخية ، وانجازاته واخفاقاته.. وامكانية استلهام بعض الدروس من هذه التجربة في الذاكرة المصرية والعربية. وتأتي الذكرى الرابعة والأربعين لرحيل جمال عبد الناصر فيما تطل علينا مصطلحات مثل -الناصرية الجديدة- فيما يشير البعض الآخر لمغزى رفع الجماهير المصرية صور ناصر في ثورتهم الشعبية بموجتيها في 25 يناير 2011 .. و30 يونيو عام 2013. وقد ارتبطت تجربة ناصر منذ بدايتها بالسعي الحثيث نحو تحقيق العدالة الاجتماعية, وإزالة الفوارق الطبقية والاقتصادية الكبيرة بين طبقات الشعب, وإصدار قانون الإصلاح الزراعي, وإلغاء الإقطاع لشعوره بمعاناة الفقراء, والقضاء على سيطرة الرأسمالية بمجالات الإنتاج الزراعي والصناعي, وإقرار مجانية التعليم العام والعالي, وتأميم التجارة والصناعة التي استأثر بها الأجانب. ذكرى وفاة ناصر تعيد للشعب المصري الجمع العقلي للمطالب التي قامت من أجلها ثورة 25 يناير 2011 عندما رفع المتظاهرون صورته باحثين عن الأمل من خلال تحقيق العيش والحرية والعدالة الاجتماعية والكرامة الإنسانية, حيث تبنى ناصر المفهوم الواسع للعدالة الاجتماعية منذ قيامه ورفاقه بثورة 1952 التي رسمت توجها جديدا من اليوم الأول لها اتسق مع رؤاها بشأن التنمية المستقلة والمشروعات الوطنية العملاقة وحتمية التصنيع ودور الدولة الضخم فيه, وامتدت آليات العمل لتوفير حقوق من صميم العدالة الاجتماعية, كالحق في التعليم والصحة والمسكن والملبس المناسب. السيرة الذاتية .. ولد جمال عبد الناصر في 15 يناير 1918م في منزل والده بحي باكوس بالإسكندرية قبيل أحداث ثورة 1919 في مصر، وهو من أصول صعيدية، حيث ولد والده في قرية بني مر في محافظة أسيوط، ونشأ في الإسكندرية. في سنة 1937، تقدم عبد الناصر إلي الكلية الحربية لتدريب ضباط الجيش، ولكن الشرطة سجلت مشاركته في احتجاجات مناهضة للحكومة، فمنع من دخول الكلية، فالتحق بكلية الحقوق في جامعة الملك واستقال بعد فصل دراسي واحد وأعاد تقديم طلب الانضمام إلي الكلية العسكرية. استطاع عبد الناصر مقابلة وزير الحربية إبراهيم خيري باشا وتم قبولة عام 1937 وطلب وأخذ يتدرج في الرتب بالجيش، وبعدها نقل الي السودان وقابل هناك رفيق عمره عبد الحكيم عامر. تم قبوله في كلية الأركان العامة في وقت لاحق من ذلك العام، وبدأ بتشكيل مجموعة من ضباط الجيش الشباب الذين يملكون مشاعر القومية القوية، كما ظل علي اتصال مع أعضاء المجموعة من خلال عبد الحكيم عامر، وواصل البحث عن الضباط المهتمين بالأمر في مختلف فروع القوات المسلحة المصرية. في عام 1949 قام عبد الناصر بتنظيم اللجنة التأسيسية للضباط الأحرار وتألفت من أربعة عشر رجلا من مختلف الخلفيات السياسية والإجتماعية، بما في ذلك ممثلين عن الشباب المصريين، والإخوان المسلمين، والحزب الشيوعي المصري، والطبقة الأرستقراطية، حيث أنتخب عبد الناصر في ذلك الوقت رئيسا للجنة بالإجماع. انطلقت الثورة يوم 22 يوليو وأعلن نجاحها في اليوم التالي، حيث تمكن الضباط الأحرار السيطرة علي جميع المباني الحكومية، المحطات الإذاعية، مراكز الشرطة، وكذلك مقر قيادة الجيش في القاهرة، وكان العديد من الضباط المتمردين يقودون وحداتهم. تم تعيين اللواء محمد نجيب كأول رئيس لجمهورية مصر العربية بعد إلغاء الملكية، وذلك عقب رحيل الملك فاروق من مصر، وعين عبد الناصر وقتها نائبا لرئيس الجمهورية، إلي أن دب الخلاف بين عبد الناصر ومحمد نجيب حول بعض القوانين والقرارات ولقرب نجيب من معارضي مجلس قيادة الثورة الأخوان المسلمون، وحزب الوفد فتم عزل محمد نجيب وتولي ناصر منصب رئيس الوزراء الي أن أجري استفتاء علي عبد الناصر ليتولي منصب رئيس الجمهورية في عام 1956. استطاع جمال عبد الناصر في 19 أكتوبر 1954 أن يعقد اتفاقية الجلاء مع بريطانيا والتي بمقتضاها تم رحيل القوات البريطانية عن أرض مصر بالكامل، ولكنة في مقابل رحيل الأنجليز عن مصر إضطر ان يتنازل عن وحدة مصر والسودان. وأثناء تواجد جمال عبد الناصر في الأسكندرية وإلقاء خطابة أمام الجماهير تم إطلاق 8 رصاصات علية من الإخواني محمود عبد اللطيف ولكن لم تصبه أي رصاصة منهما. وفي 26 يوليو عام 1956 أعلن ناصر تأميم قناة السويس شركة مساهمة مصرية في مؤتمر جماهيري حاشد وبذلك أنهي النفوذ البريطاني في المنطقة، ولكن سرعان ما اتفقا ثلاث دول وهما بريطانيا واسرائيل وفرنسا علي شن هجمات علي مصر لإسباب عدة، ولكن سرعان ما فشل هذا العدوان أمام صمود المصريين. وفي عام 1958 أعلن عبد الناصر الوحدة والإندماج مع سوريا وتم تعيينه وقتها رئيسا للجمهورية العربية المتحدة، إلا أن هذه الوحدة لم تدم طويلاً، حيث حدث انقلاب في الاقليم السوري في عام 1961 أدي إلي إعلان الانفصال ثم تم عقد معاهدة وحدة متأنية مع العراقوسوريا إلا أن وفاة الرئيس العراقي المشير عبد السلام عارف عام 1966 أدت إلي فشل الوحدة بين الثلاث دول. فشهدت مصر في عهد الزعيم جمال عبد الناصر نهضة اقتصادية وصناعية كبيرة، بعد أن بدأت الدولة اتجاها جديدا نحو السيطرة علي مصادر الإنتاج ووسائله، من خلال التوسع في تأميم البنوك والشركات والمصانع الكبري، وإنشاء عدد من المشروعات الصناعية الضخمة، وقد اهتم عبد الناصر بإنشاء المدارس والمستشفيات، وتوفير فرص العمل لأبناء الشعب، وتوَّج ذلك كله ببناء السد العالي الذي يُعد أهم وأعظم إنجازاته علي الإطلاق، حيث حمي مصر من أخطار الفيضانات، كما أدي إلي زيادة الرقعة الزراعية بنحو مليون فدان، بالإضافة إلي ما تميز به باعتباره المصدر الأول لتوليد الكهرباء في مصر، وهو ما يوفر الطاقة اللازمة للمصانع والمشروعات الصناعية الكبري. وفي يوم 28 سبتمبر 1970 عاد الرئيس عبد الناصر من مطار القاهرة بعدما ودع أمير الكويت إلي منزله وأصيب بنوبة قلبية حادة ووافته المنية وهو في منزله . وكان السبب المرجح لوفاته هو الإرهاق الزائد وتصلب الشرايين ومضاعفات مرض السكر, وبعد الإعلان عن وفاته, عمت حالة من الصدمة في مصر والوطن العربي, بسبب قدرته على تحفيز المشاعر القومية, وبكى الرجال والنساء, والأطفال, وكان رد الفعل العربي عامة هو الحداد, وتدفق الآلاف من الناس في شوارع المدن الرئيسية في جميع أنحاء الوطن العربي معبرين عن خسارتهم في زعيم الأمة العربية. وشيعت جنازته في القاهرة في الأول من أكتوبر عام 1970 بحضور من خمسة إلى سبعة ملايين مشيع, وحضرها أغلب ملوك ورؤساء الدول العربية,وكان المقصد النهائي لموكب جنازته المهيب هو مسجد النصر, الذي تم تغيير اسمه فيما بعد ليصبح مسجد عبد الناصر, حيث دفن عبد الناصر. قضية العدالة الاجتماعية كانت من أولويات الزعيم الراحل جمال عبد الناصر, حيث نفذ عملية الإصلاح الزراعي في 9 مارس 1952 بعد أن استلم السلطة, ثم رفع أجور العمال والتأمين الصحي وتمثيلهم في المجالس النيابية, وهذه الإجراءات رفع بها البناء الاقتصادي للخمسينيات والسيتنيات وتأسيس الترسانة الصناعية التي شكلت عصب القطاع العام المصري. جمال عبد الناصر أول من نفذ مجانية التعليم في مصر, على مراحل مختلفة انتهت بتعميم تلك المجانية على التعليم بمختلف مراحل التعليم, وخطة التنمية الطموحة لعبد الناصر جعلت مجانية التعليم ذات عائد قوي وحقيقي على المجتمع في تلك الفترة, مما أتاح تكافؤ الفرص, وكان وقتها مكتب التنسيق المعيار الذي حقق العدالة بين الطلاب. وفي ظل الخطة الخمسية الأولى أنشأت مصر السد العالي, وشركة الحديد والصلب, ومجمع الألومنيوم في نجع حمادي, وغيرها الكثير, وشهدت فترة عبد الناصر قرارات اشتراكية, غيرت شكل النظامين الاجتماعي والاقتصادي لدول كثيرة, حيث كان مفهوم التنمية الشاملة وربطها بقضية العدالة الاجتماعية مفهوما أساسيا لدى الدولة المصرية في تلك الفترة. هاهي الذكرى الرابعة والأربعين لرحيل الزعيم جمال عبد الناصر تحل وقد بدأت مصر رحلتها الجديدة للمستقبل الأفضل وهاهو الرئيس عبد الفتاح السيسي يخاطب العالم من منبر الأممالمتحدة مبشرا "بمصر الجديدة القادمة والقادرة" وموجها التحية لشعبها العظيم "الذي صنع التاريخ مرتين..مرة ضد الفساد والطغيان واخرى ضد تبديد الهوية المصرية والاقصاء والاستقطاب". وهي دولة أكد السيسي على انها "تحترم الحقوق والحريات وتضمن حقوق المواطن وحرية الرأي للجميع " فيما مشروع قناة السويس الجديدة هدية يقدمها شعب مصر للعالم..أن مصر تؤسس لديمقراطيتها الجديدة وعينها على التقدم كسبيل لتجسيد معاني الاستقلال في هذا العصر بتحولاته العالمية العميقة التي تتطلب استحقاقاتها علما وخيالا وارادة وتجددا معرفيا مستمرا تشكل كلها مايمكن وصفه "بثقافة المستقبل". أنه المستقبل الذي لطالما عمل جمال عبد الناصر من أجله وصولا للغد الأفضل لشعبه وامته..فتحية لبطل من الأبطال التاريخيين للأمة في ذكرى رحيله الرابعة والأربعين..