الجماهير لا تصدق الوعود.. لكنها تثق فى التنفيذ العملى مخالفات البناء هى الفساد المركب رشاوى + تشويه + قتلى انهيارات + تبوير أراضٍ زراعية جولات الكر والفر بين الحكومة ومافيا الفساد أحاول أن أفهم السر في تعاظم قوة الفساد واتساع نشاطه رغم التصريحات الكثيرة للمهندس إبراهيم محلب، رئيس الوزراء والتي يهدد فيها باتخاذ إجراءات رادعة ضد الفساد. واسترحت إلي التفسير المنطقي الذي يري أن الجماهير تختبر السلطة التنفيذية مع أول تصريح يهدد مافيا الفساد بإجراءات قاسية، وتراقب الجماهير التصرف العملي للسلطة التنفيذية، وتمارس مافيا الفساد نشاطها بحذر شديد وفي نطاق ضيق انتظاراً لرد فعل السلطة التنفيذية، فإذا جاء رد فعل السلطة التنفيذية متوافقاً مع تهديداتها القوية توقفت مافيا الفساد بعد أن تخسر خسارة محدودة نظراً لتقليص نشاطها وحذرها، ثم تعاود مافيا الفساد من جديد وبعد فترة استئناف نشاطها بحذر أكبر وفي نطاق أضيق حتي تري رد فعل السلطة التنفيذية، فإذا ثبت عملياً أن السلطة التنفيذية لم تزل مستمرة في التزامها الصارم بمحاربة الفساد وردعه، توقفت مافيا الفساد لوقت أطول، لكنها لا تيأس وتظل تعاود محاولاتها الحذرة وفي نطاق ضيق لاختبار مدي استمرار السلطة التنفيذية في الالتزام بجدية محاربة الفساد. وعندما تكتشف مافيا الفساد في أي مرحلة من مراحل هذا «الكر والفر» أن السلطة التنفيذية قد تراخت قبضتها القوية ووهن عزمها لأي سبب من الأسباب، وأن محاربة الفساد عملياً قد تراجعت أو توقفت أو تم تطبيقها بطريقة انتقائية تسمح لبعض ذوي النفوذ بالإفلات من العقاب ولا تتصدي إلا للفساد الصغير الذي لا يملك مظلة من أصحاب نفوذ تحميه، عندما يحدث هذا تبدأ مافيا الفساد في استئناف نشاطها من جديد، ويتدرج هذا النشاط قوة واتساعاً حتي يطمئن من يمارسون الفساد بأشكاله ووسائله المختلفة إلي أن قبضة السلطة التنفيذية قد تراخت، وهنا يزداد الفساد فجوراً، ولا تكلف مافيا الفساد نفسها مشقة الحذر الشديد أو تقليص نشاطها. حاولت تطبيق هذا المنطق علي أرض الواقع في أحد مجالات الفساد الأعظم الذي يتمثل في مخالفات البناء بكل أشكاله، سواء مخالفات البناء علي الأراضي الزراعية أو مخالفات اغتصاب أرض مملوكة للدولة أو مخالفات الارتفاعات، خاصة في عواصمالمحافظات وبشكل خاص في القاهرةوالجيزة. بعد انتهاء فترة الانفلات العام التي أعقبت ثورة يناير وموجتها الثانية في يونية من العام الماضي أطلق الوزراء المعنيون ورؤساء الوزارات تصريحات نارية تهدد بالويل والثبور والتطبيق الحازم للقانون علي جميع هذه المخالفات، وتوقف نشاط المخالفين في مختلف المجالات لفترة وجيزة، وعندما عاد البعض لاستئناف نشاطه في المخالفات ولم يواجه صعوبات حقيقية، واكتشف أن التصريحات النارية للمسئولين ليست أكثر من تصريحات جوفاء للاستهلاك المحلي والظهور بمظهر السلطة التي تصر علي تطبيق القوانين بحسم وصرامة، عند اكتشاف هذه الحقيقة عادت مافيا مخالفات البناء لنشاطها بقوة أكبر واتسع نشاطها وتمدد إلي مساحات ومناطق جديدة. محافظ القاهرة والعملية اليتيمة في هذا السياق، أذكر واقعة كمثال صارخ لحالات الكر والفر بين السلطة ومافيا مخالفات البناء، هذه الواقعة شاهدتها الجماهير علي شاشات التليفزيون عندما قاد «الباشا محافظ القاهرة» حملة إزالة كبري لعدد من الأبراج التي بنيت في منطقة المعادي بالمخالفة للقانون، قاد الباشا المحافظ حملة عسكرية فجرت الأبراج وأزالتها، وأدلي الباشا المحافظ بالتصريحات النارية التي يؤكد فيها أنه لن يتهاون في تنفيذ القانون، وأنه سيزيل جميع المخالفات التي صدرت بحقها قرارات «إزالة». للحظة تنفست الجماهير الصعداء وتصورت أن محافظ القاهرة قد حزم أمره وأنه بدأ الخطوة الأولي والأكثر صعوبة لتطبيق القانون بحزم وقوة علي جميع المخالفات بلا استثناء، ومرت الأسابيع ثم الشهور ولم تسمع الجماهير أو تري «الباشا المحافظ» بابتسامته الساحرة وهو يقود «حملة تانية» لإزالة مخالفات أخري؟ وبدأت الهمسات تفسر هذا الصمت بأن الحملة الأولي لم تكن خطوة علي طريق حدده الباشا المحافظ لإزالة جميع المخالفات في القاهرة، لكنها كانت الحملة «اليتيمة» لأن الأرض المقامة عليها الأبراج المخالفة تملكها جهات صاحبة نفوذ قوي! وهنا لم تكتفِ مافيا المخالفات باستئناف نشاطها باطمئنان بل توسعت في نشاطها، وظل الباشا المحافظ يري ويسمع عن المخالفات الجديدة ويكتفي بإطلاق التصريحات والتهديدات بشكل شبه دوري دون أن تقترن هذه التهديدات بأي تصرف عملي. محافظ الجيزة يكتفي بالتصريحات هذه الواقعة لها أكثر من مثيل في محافظة الجيزة التي تحتل المركز الأول في مخالفات البناء، ومن أراد أن يشاهد نشاط مافيا المخالفات المستمر بسرعة الصاروخ، فيستطيع أن يشاهد هذا النشاط في عشرات الأحياء بمحافظة الجيزة وأن يري نموذجه الأكثر بشاعة علي جانبي الطريق الدائري وطريق المحور. وطبعاً لا ينسي الباشا محافظ الجيزة أن يتحفنا بين الحين والآخر بتصريح قوي عن اعتزامه تطبيق قرارات الإزالة علي الجميع دون استثناء. مشروع قانون التصالح يشجع الفساد وهنا أتوقف أمام تصريحات رئيس الوزراء الأخيرة، وأضعها جنباً إلي جنب مشروع قانون التصالح في مخالفات البناء لأري أن مشروع القانون هذا هو الباب الملكي الذي يشجع مافيا المخالفات علي الاستمرار في نشاطها والتوسع فيه. وإذا رأي البعض أن هذا القانون سوف يضخ بضعة ملايين من الجنيهات في خزانة الدولة، فإن آثاره الكارثية تفوق ملايين المرات ما ستحصل عليه الحكومة من غرامات كحصيلة للتصالح، بل إن النتيجة النهائية والحتمية لهذا القانون هو تحميل خزانة الدولة في المدي المتوسط أضعاف أضعاف ما سوف تحصل عليه من غرامات مخالفات البناء، سواء بإهلاك المرافق العامة أو سقوط ضحايا انهيار هذه البنايات المخالفة، أو التشويه البشع للمدن المصرية عامة والعاصمة خاصة. الحل الوحيد والحاسم لمحاربة الفساد، وفي المقدمة منه فساد مخالفات البناء هو إزالة المخالفات أو مصادرتها إذا ثبت هندسياً عدم خطورتها، وإذا لم تكن متجاورة لخطوط التنظيم المعتمدة، ويتحمل الباشاوات المحافظون المسئولية المباشرة في التنفيذ. ولا أطالب بتكريس جهد المحافظين لهذا الأمر وحده - مع أهميته القصوي - لكنني أطالب علي الأقل بأن يقوم كل محافظ بتنفيذ الإزالة لأكثر العقارات المخالفة بمعدل بناء علي أسبوعين، وأن تستمر العملية بانتظام، هذا التنفيذ العملي لو استمر سيكون له ثمار واضحة. 1 - سوف تشعر مافيا مخالفات البناء بجدية السلطة فتتوقف عن ارتكاب المزيد من المخالفات. 2 - ستطمئن الجماهير إلي أن الحكومة ممثلة في مستوياتها الوظيفية المختلفة بدءاً من رئيس الوزراء جادة فعلاً في حربها المعلنة بالتصريحات ضد الفساد. 3 - سيتقلص نشاط المسئولين الذين يعاونون مافيا الفساد، خاصة في المحليات. وأعاود هنا تقديم ما سبق واقترحته في مقال سابق بأن يتوافق مع هذا التنفيذ العملي وضع لافتات ضخمة علي العقارات المخالفة تحذر المواطنين من التعامل مع هذه العقارات شراء أو إيجاراً حتي يحين موعد تطبيق قرار الإزالة عليها. السيد رئيس الوزراء: إذا أردت أن تصدق الجماهير التهديدات القوية بمحاربة الفساد، فالطريق الوحيد هو وجود إشارات واضحة تؤكد «التطبيق العملي» لمحاربة الفساد، ومن أبرز مظاهره مخالفات البناء.