يأبي الكثير من مفردات الخطاب الإعلامي إلا الانسحاب إلي ما قبل الثورة المصرية، متجاهلاً ما سعت إلي تغييره من قيم مجتمعية تعلي من شأن مختلف معايير الحكم الرشيد، وأولويتها في مقدمة كل جهد وطني مخلص، لا يبتغي إلا صالح الوطن، وتحقيق الطموحات الثورية، وهي مشروعة بالقطع، لا تقبل في ذلك مساومة أو مزايدة. ولعل في ذلك ما يشير إلي اقتراب، بات جلياً بالفعل، لأتباع نظام مبارك الفاسد، ما هيأ لهم «مجالاً صوتياً» واسعاً لطالما حجب في الماضي غياب إرادة سياسية حقيقية في إجراء إصلاح سياسي واقتصادي جاد، ربما في ظله استحق البعض منهم البقاء علي سطح الأحداث؛ ذلك أن عمليات التحول الديمقراطي تعرف نماذج «طوعية»، سعي خلالها النظام الحاكم إلي «دمقرطة» الحكم، استشرافاً منه لمد ديمقراطي حتمي، لا يمكن صده في ظل تداعيات الثورة الاتصالية التي تأسس عليها مفهوم العولمة، بما يحمله من قواسم إنسانية مشتركة، وما يعبر عنه من أفكار وتوقعات وطموحات تشير إلي منظومة القيم الحاكمة للعلاقات المتشابكة بين مختلف أفراد الأسرة الدولية. ففي أعقاب الثورات الشعبية مباشرة، تُعد مشاركة النظام القديم في بناء الدولة الجديدة، من الأمور التي يستبعدها كل «منطق ثوري»، حيث تشير بصدق إلي شيوع حالة «عدم اليقين» فيما إذا كانت ثورة قد نجحت بالفعل، أم أن الأمر يمكن اختزاله في مفهوم «الأزمة السياسية»، أم أن «الاحتجاجات الشعبية» كانت هي الأدق تعبيراً عن مجريات الأمور. غير أن «للمنطق السياسي» مقومات أخري يستند إليها، فنجده يتيح نماذج نجحت في استيعاب قوى الماضي في طيات النظام الجديد، وفق تدرج يسمح بتحول ديمقراطي لا تشوبه صراعات مجتمعية تحبط خطى المجتمع صوب طموحاته؛ بيد أن لذلك مؤشرات لا وجود قوىاً لها في الحالة المصرية، بعد بقاء أتباع مبارك علي ذات المرتكزات الفكرية البالية، وفشلهم في استيعاب الدرس، والتكيف مع الواقع الجديد الذي فرضته الثورة. من هنا تأتي خطورة «التداخل» الحادث علي الساحة الداخلية في المرحلة الراهنة؛ ففي إطار عملية التحول الديمقراطي يشير واقعنا السياسي إلي أن الركب الثوري يمر الآن بمرحلة «الانتقال الديمقراطي»، وهي مرحلة تتداخل فيها قوى الماضي مع القوى الثورية، علي نحو يصعب تفكيكه دون كلفة عالية، ربما لا يتحملها الوطن في ظل خصوصية التحديات والمخاطر المحيطة بأمنه واستقراره، بل وبقائه. وفي سياق مرحلة «الانتقال الديمقراطي»، لا يمكن استبعاد خطر العودة إلي ما قبل الثورة، كما أن «الأمل» في نجاح الثورة يظل مشروعاً، بل هو واجب وطني يقتضي الحرص علي متابعته، وصولاً إلي ترسيخه ثقافة مجتمعية غالبة. ولا شك أن النموذج الإعلامي السائد في تلك المرحلة، مرحلة «الانتقال الديمقراطي»، يشير إلي مكنون التفاعلات السياسية وحقيقة توازنات القوى فيما بين الأطراف المتصارعة حول مفهوم الثورة، ذلك المفهوم السامي، الذي لا ينبغي احتجازه طويلاً رهن المساومة والمزايدة. وقياساً علي ذلك، يمكن استيعاب الكثير من تفاصيل الخطاب الإعلامي الصادر عن أتباع مبارك، في اتجاه يُنبئ بعمق مرحلة «الانتقال الديمقراطي»، في ظلها يبقي مفهوم الثورة مفهوماً متحركاً، تتجاذبه القوى السياسية المتباينة، وليس أدل علي ذلك من وصفهم ثورة يناير بالمؤامرة!، وأن الثورة ما هي إلا ثورة يونية، وقد جاءت لتجابه ثورة يناير، وتمحو أثرها!، وليس بعيداً عن ذلك محاولات التشكيك في وطنية الأحزاب الثورية!، وأحياناً التقليل من أهمية وجود برلمان في المرحلة الراهنة!، وتارة أخرى يؤكدون أحقيتهم بمقاعد البرلمان استناداً إلي ما قدموه لدوائرهم من «خدمات»!، في استعادة لذات مفردات خطاب عهد مبارك، وعلي صلة قوية بذلك دفعهم بكل صاحب رأي مخالف إلي دوائر التخوين والعمالة... وهكذا كان جهرهم بالسوء شتى، وما ظلمهم أحد، «ولكن كانوا هم الظالمين». ليبقي «التداخل» سمة المرحلة الراهنة، عسي الانتخابات البرلمانية المقبلة تخفف من حدته، وتستعيد موقعاً أفضل للثورة وأبنائها. «الوفد»