يخطئ من يظن أن فراغاً ما نشأت في ظله «ثورات الربيع العربي»؛ ذلك أن الأمر لم يكن إلا تطبيقاً لأطروحات جادة افترشت موائد البحث علي نطاق محلي ودولي، حتى باتت أدبيات التحول الديمقراطي من المناهج الأساسية في دراسة العلوم السياسية؛ ومن ثم فإن متابعة الدرس التاريخي المقارن أمر من شأنه إدراك حقيقة اللحظة التاريخية الراهنة، واستشراف المستقبل الذي نحن بصدد كتابته، ورسم توجهاته. فقد مرت عمليات التحول الديمقراطي بموجات متتالية منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، نالت من المنتصر والمهزوم علي السواء، وإن اختلفت الصيغ المتبعة، وتباعدت الخطى، ما يفيد كون الديمقراطية سمة إنسانية غالبة علي أمرها. وبالنظر إلي جملة من القواسم المشتركة، علي المستويات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، لا تتيح المساحة فرصة سردها، فقد اقترب التنظير للتحول الديمقراطي العربي من النموذج الذي قدمته أوروبا الشرقية، فيما بعد انتهاء الحرب الباردة، وانهيار الاتحاد السوفيتي عام 1991. ورغم وحدة «المد الجغرافي» كسمة أساسية مميزة، تدعمها قوة وسائل الإعلام في التأثير علي تشكيل وتوجيه الرأي العام، فإن فروقاً جوهرية، مثلت أسباباً وجيهة، بموجبها حازت التجربة العربية خصوصية لم تتوفر في عمليات التحول الديمقراطي التي شهدتها أوروبا الشرقية؛ لعل أبرزها السمة الثورية العنيفة، في مقابل تحول ديمقراطي سُمي في أغلبه «ثورات انتخابية»، انتصرت للطموحات الشعبية المشروعة، مستفيدة من الحدود الدنيا من «الممارسة الديمقراطية» في أوروبا الشرقية، تدعمها عوامل أخرى لم تتوفر في التجربة العربية. وقد استلهم حزب الوفد جوهر «الثورات الانتخابية»، وفق خصوصية الحالة المصرية، فكانت الضغوطات التي مارسها الوفد علي نظام مبارك، وتجسد ذلك في مقاطعة آخر انتخابات برلمانية تمت في عهده، وقد اعترف الكثير من رموز نظام مبارك بفعالية ذلك الموقف الوفدي في إسقاط شرعية تلك الانتخابات؛ ومن ثم كان اختمار ثورة يناير المجيدة، ما يُشير إلي مغالاة واضحة تتبناها وجهة النظر الرافضة لأي دور للأدوات السياسية المتعارف عليها، ومن بينها الأحزاب، في النهوض بدور حقيقي في تفجير الثورات العربية. وإذا كان الاستنساخ غير جائز، فإن الشواهد لا تصب كثيراً في صالح دعاة الخصوصية، فمع تزايد الأحزاب والحركات السياسية في أعقاب اندلاع عمليات التحول الديمقراطي، تأتي اللحظة الوطنية الجامعة، فتتوحد كيانات سياسية، يجمع بينها أكثر مما يفرق، فتبدأ في شق ممرات مجتمعية جديدة، تستوعب مختلف التيارات الوطنية، وينعقد الرهان هنا علي مدى قدرة تلك الكيانات الجامعة علي استيعاب مختلف التيارات الوطنية الفاعلة، وقدرتها علي الانحياز للمتغيرات المجتمعية الجديدة. وعلي ذلك فإن التحالفات التي تشهدها الساحة السياسية الوطنية، لا ينبغي تناولها في إطار ضيق نختزل فيه جوهر التحول الديمقراطي في مكاسب سريعة يمكن اقتناصها فيما هو مقبل علينا من استحقاق برلماني، دون نظرة بعيدة تؤسس لبناء مجتمع ديمقراطي يلبي الطموحات الشعبية المشروعة نحو حياة أفضل. فسير علي هذا الدرب لا يمكن أن يصل بنا إلي تحقيق تحول ديمقراطي حقيقي وجاد؛ ذلك أن التحالفات منوط بها «لملمة» الشتات السياسي، في مواجهة أعداء الثورة، دون الرغبة في محو «التعددية»، والتي هي أساس العملية الديمقراطية؛ وبالتالي فإن مثل هذه التحالفات ينبغي أن ترتكز علي قواعد راسخة من القيم الداعمة لصحيح الممارسة الديمقراطية، وإلا مثلت فرصاً متزايدة للنيل من المكتسبات الثورية. فإذا ما تجاوزنا حدود شهواتنا السياسية، واستوعبنا حجم المسئولية التاريخية التي تجسدها اللحظة الراهنة، وجب علينا الإقرار بأن مستقبل الشعوب صناعة تتطلب مواقف وطنية حقيقية، بينما «المال» قيمة لا تصنع تاريخاً.! «الوفد»