مرة أخري يثبت الشعب المصري جدارته باستعادة موقعه الريادي الذي عبر من خلاله عن مكنونه الحضاري المتراكم عبر آلاف السنين؛ فليس في مواجهة حملات التخويف الإخوانية أقوى مما قدمه الشعب المصري بالأمس من روح وطنية لا تنكسر، وآمال لا تنقطع. من هنا كانت المهمة ثقيلة علي الرئيس المقبل، أيا كان، في صياغة خطاب مجتمعي جديد يعبر به عن رؤيته لكيفية نهوضه بمسئولياته بما يتلاءم وتقديره لجوهر الشعب المصري، الذي أبهر العالم في الخامس والعشرين من يناير، وأكد تفرده بين شعوب العالم في تأكيده علي مبادئ وقيم ثورته بخروج الملايين في الثلاثين من يونية، تستبعد من تسللوا إلي الصف الثوري، وتلغي بسرعة شرعية ذهبت إلي من لا يستحق. هذا هو الشعب المصري الذي طالما وصفته رموز نظام مبارك بأنه غير مستعد لديمقراطية حقيقية، في تبرير هزلي لانحسار الممارسة الديمقراطية في عدة مظاهر كاذبة علي سطح المشهد الوطني، وغياب إرادة سياسية حقيقية باتجاه إجراء إصلاحات سياسية جادة، وهو ما اتخذ صيغاً مختلفة في الخطاب السياسي لنظام مبارك، فكان أن اعتلت «خصوصية الشعب المصري» قمة الأسانيد البالية التي واجه بها مبارك المجتمع الدولي، إذا ما واجه منظومة القيم الحاكمة للعلاقات الدولية المعاصرة الرابطة بصلات وثيقة بين ديمقراطية الدولة، ومراعاتها لحقوق الإنسان، وما يمكن أن يُقدم لها من مساعدات دولية، اقتصادية وسياسية، ما يجعل من وضعية الدولة داخل الأسرة الدولية رهناً لأدائها في الداخل علي صعيد الممارسة الديمقراطية. لا ينفي ذلك وجود استثناءات في المجتمع الدولي يشكل الكيان الصهيوني نموذجها الأبرز، بيد أن ديكتاتورية إسرائيل لم توجه يوماً إلي شعبها، بل اختصت بها شعوب المنطقة، وكان للشعب الفلسطيني النصيب الأكبر، أما الأنظمة الحاكمة غير الديمقراطية فهي في عداء صريح مع الطموحات المشروعة لشعوبها.! وكذلك لم يكن نظام الإخوان الإرهابي أكثر إنصافاً للشعب المصري، فاستند في خطابه السياسي إلي خلط الدين بالسياسة، وجعل من الصعود به إلي منصة الحكم واجباً دينياً ووطنياً، باعتباره حلاً لمختلف المشكلات الدينية والدنيوية علي السواء، فطعن في حقيقة إدراك الشعب لصحيح الدين الإسلامي، وجاوز المدى فأطلق العنان لأعضائه ينكرون علي الناس إسلامهم، ويشككون في مرجعية الأزهر الشريف، وحرصه وقدرته علي تقديم صحيح الدين الإسلامي.! وتأتي خسارة الشعب أفدح في أبنائه ممن رفعهم بالتفافه حولهم، أياً كانت مواقعهم، فروج فصيل غير قليل العدد من «نخبته»، وهي بالمناسبة «نخبة» لا تستند إلي قدرة، وإنما إلي شهرة زائفة؛ ومن ثم كان خطابها عن الشعب المصري متعالياً، ولا يجد صداه إلا في قلوب أعداء الوطن؛ فلطالما شهدت هذه «النخبة» بأن الشعب المصري لا يملك من الطموحات ما يتجاوز «لقمة العيش»، ولا يدرك من قيم النجاح إلا «الدعاء»؛ وبالتالي فإنه لا يستحق حكماً ديمقراطياًَ حقيقياً، قدر ما هو في حاجة دائمة ومُلحة إلي ديكتاتور، حتى راج في هذا المجال تعبير «الديكتاتور العادل» بوصفه الصيغة المثلي لحكم الشعب المصري.! والواقع أن في ذلك إشارة واضحة إلي ما يربط بين أعداء الوطن من سمات هي مجموعة من القواسم المشتركة، تجسد حقيقة انتمائهم إلي ذات الاتجاه، وتعبر عن حجم المصالح المشتركة فيما بينهم، وإن اختلفت صيغ الخطاب السياسي الصادر عنهم، ما بين نظام مبارك، ونظام الإخوان، والنخبة الزائفة. فنظام مبارك لم يكن بإمكانه البقاء ونهب مقدرات الوطن علي مدى عدة عقود، في ظل حياة ديمقراطية حقيقية، وصعود الإخوان لم يكن ممكناً لو لم تجد عوناً من نظام مبارك الفاسد، حين انسحب من الحياة الاجتماعية للمناطق الفقيرة، وهي أغلب مناطق مصر، ولم يكن الإخوان يملكون ما يواجهون به طموحات الشعب في حياة ديمقراطية جادة، إلا معاداة أصحاب التوجهات الديمقراطية من جهة، وإغراق الناس في مشكلات وهمية فيما هو بين الحلال والحرام من دقائق من جهة أخرى، علي نحو تتراجع معه القضايا الأساسية للوطن إلي أطراف المشهد الوطني، بعيداً عن جموع الشعب، التي يسهل فيما بعد استدعاؤها علي عجل أمام صناديق الاقتراع.! والحال كذلك، وقد أقصي الشعب أتباع مبارك وبديع علي السواء، لم يبق إلا «النخبة» الزائفة، وقد باتت في مواجهة لا تملك أمامها إلا أن تعتدل لتنضم إلي الركب الثوري، وتعلن عن تصحيح مسار خطابها باتجاه المصالح الوطنية، فإن لم يكن ذلك مراعاة لمسئوليتها الوطنية، فليكن حرصاً علي عدم مجابهة شعب لن يتوقف عن إسقاط أعدائه، ولن تخمد ثورته قبل أن تفرض مبادئها وقيمها علي المشهد الوطني. وكما أسقط الشعب الأنظمة الفاسدة المستبدة، سيجدد الشعب نخبه الوطنية، لتأتي علي قواعد من الكفاءة والقدرة، وفي ذلك التعبير الصادق عن خصوصية الشعب المصري، علي عكس ما يأتي في خطاب أعداء الوطن. «الوفد»