تحت سطح السباق الرئاسي، وفي زحام المشهد الوطني، بتفاصيله السياسية والاقتصادية والاجتماعية، تتوه جملة من الحقائق، ربما كان إدراكها علي نحو صحيح من شأنه أن يغير الكثير من الخطاب المجتمعي الدائر دون انقطاع، ويحمل في طياته قدراً لا بأس به من مظاهر ترفض الاعتراف بمتغيرات الأوضاع علي الساحة الوطنية، ما يشير إلي وجود أعداء الثورة علي مقربة من الرأي العام. فلطالما راجت مناظرات لا تنتصر للحقائق، قدر استهدافها مواكبة الركب أينما اتجه، استناداً إلي سابق تجاربهم في الترويج للأضاليل، وتسلق مختلف المنعطفات الوطنية، انتهازاً لفرص يتوقعون أن تحمل لهم حلم العودة. ولا شك أن هؤلاء إنما ينطلقون مما يحمله مفهوم «النخبة» من مزايا نوعية تتيح لأصحابها «حقوقاً أدبية» تبتعد بهم عن حق الغير في تصويب الأمر في مواجهتهم، رغم سابق الآثار سيئة الذكر التي حملتها أفكارهم ومناظراتهم. فمازال خطاب تلك «النخبة» يسير نحو تعليق كل الآمال علي الرئيس الجديد، بوصفه الحاكم الأوحد للدولة، مطلق الرؤى والهوى، دون النظر إلي ما طرأ علي الدستور من تعديلات جذرية في هذا الاتجاه، فكان أن أُضيف الكثير من الاختصاصات والصلاحيات للمؤسسات الدستورية للدولة خصماً من رصيد الرئيس، في محاولة جادة من واضعي الدستور بصيغته الجديدة لتوزيع السلطة، بيد أن الحوار المجتمعي الذي تقوده «نخب مبارك» ما زال يدفع باتجاه تركيز الآمال كلها في شخص الرئيس الجديد، وكأن ثورة لم تقم، وشعباً قد غادر مقاعد المشاهدين إلي داخل المشهد إلي غير رجعة. وعبوراً لكل «الحدود»، يتناول خطاب «نخب مبارك» العلاقات الدولية لمصر بذات المنطق الداعي إلي تغليب الهوى، علي ما عداه من رؤى تنحاز لوعي سياسي أفضل، فمحاولات إعادة التوازن والتنوع، رأت «نخب مبارك» الاختباء خلفها وهي تستدعي حقبة زمنية ولت ولن تعود، فجاء فيما روته «نخب مبارك» أن روسيا ستحل في العلاقات الدولية لمصر، راعياً أول بديلاً عن الولاياتالمتحدة.! رغم أن مبارك لم يكن مناصراً لتلك الحقبة، ولا لغيرها، إلا أن كل الخيارات أهون علي «نخب مبارك» من خيارات الثورة التي أطاحت بهم. وفي الاتجاه ذاته، وإعمالاً لموروث «نخب مبارك» من أدوات وآليات صناعة القرار، التي لم تخرج أبداً من أبواب القصور الرئاسية المصرية، وجهت «نخب مبارك» انتقادات حادة لوزير الخارجية نبيل فهمي، بدعوى أنه التقي أثناء زيارته الأخيرة للولايات المتحدة بمن «لا قيمة لهم لدينا»!، ممن يعدونهم هناك، وفي كافة الدول الديمقراطية «دوائر صناعة القرار»، بل ذهبوا إلي أن الرجل «تحدث معهم فيما لا يعنيهم عن الشأن المصري»، فيما رأوه «امتهاناً لكرامة مصر»!. والحال كذلك، فإن كل تغييب لصحيح فهم قواعد الممارسة الديمقراطية أمر تراه «نخب مبارك» يصب في صالحها، وهو بالقطع كذلك؛ وبالتالي حق لنا أن نؤكد أن كون الرئيس الجديد بؤرة أحلام وطموحات الناس، يأتي من ذات اتجاه من هاجموا نبيل فهمي لأدائه المتميز في زيارته الأخيرة للولايات المتحدة، فلو أن إدراكاً قد بلغنا، علي نحو ما، عن صحيح الممارسة الديمقراطية، لما دفعنا بمختلف الآمال الثورية إلي الرئيس علي سبيل الحصر، دونما دور تؤديه كافة القوى الوطنية، بل ومؤسسات الدولة علي اختلاف مواقعها وترتيبها في البناء الهرمي للدولة، وهو ما يتعارض مع الدستور الذي حاز قبولاً شعبياً طاغياً. ولو أن فهماً ميز مناظرات «نخب مبارك» لكان لهم تفسير آخر لتنوع لقاءات نبيل فهمي في الولاياتالمتحدة، نتجاوب به مع طبيعة النظام الأمريكي، ونتفهم معه مقتضيات اتساع دوائر صناعة قرار السياسة الخارجية الأمريكية عن أن يحتويها البيت الأبيض أو الخارجية الأمريكية. ولعل فيما ذكر من أمثلة، وغيرها كثير، يؤكد تخلف الخطاب النخبوي القادم من منظور نظام مبارك، ويشير إلي ردة يبتغونها يهيئون بها ممرات آمنة يعودون بها إلي المشهد السياسي، ما يؤكد علي أن ما بينهم وجوهر مفهوم الديمقراطية من عداء، ما عاد يسمح لهم بالبقاء في دوائر النخب في مصر الثورة، بعد أن احتكروا طويلاً مفهوم «النخب»، المنوط بها قيادة الرأي العام إلي مراتب أعلي تتيح له مشاركة سياسية واعية؛ ومن ثم فإن الواقع يشير إلي تسرب نظام مبارك الفاسد المستبد إلي داخل المشهد الوطني، تسبقهم ذات الرؤى العقيمة التي شكلت علامات صادقة علي مدى «احتكارهم» للدولة، و«احتقارهم» للثورة. «الوفد»