لم أكن يوماً منتمياً لأى حزب أو منضماً لأى فصيلٍ سياسى، وذلك ليس لانعدام البرنامج الحزبى الذى يناسبنى، فمصر بها أحزابٌ عريقة تستوعب كل التوجهات السياسية المصرية، ولكن عزوفى عن الانتماء الحزبى حتى الآن كان لسببين، الأول تحفظى على فكرة الحزبية ذاتها ومدى ملاءمتها لأمتنا العربية بطبيعيتها الخاصة ومرجعياتها الثقافية، والثانى حرصى المفرط على استقلالى الشخصى فى الحركة والتعبير عن الرأى. هذه المقدمة الصادقة أراها لازمةً لحديثى اليوم لما قد يثيره من حنقٍ أو غضاضةٍ لدى البعض ممن نختلف معهم حول توصيف أحداث يناير 2011. وإذا كانت وجهات النظر حول هذا الموضوع قد تباينت وقُتلت بحثاً وعرضاً خلال السنوات الماضية، إلا أننى أعتقد أن استمرار وتصاعد الأعمال الإرهابية لتلك الجماعة المسماة بالإخوان المسلمين، إنما يستند -ضمن ما يستند إليه- إلى ركيزةٍ فكريةٍ آمنةٍ تتمثل فى ذلك المفهوم الخاطئ والتوصيف الجانح لتلك الأحداث، ومن ثَمَّ فقد رأيت إعادة طرح الموضوع بمناسبة الخبر الذى بثته وسائل الإعلام فى الأسبوع الماضى عن دعوة للدكتور عبدالمنعم أبو الفتوح أحد أقطاب الجماعة الإرهابية للحشد لثورة مسلحة يوم 28 نوفمبر الجارى! إن حديثى اليوم ليس جديداً وأعتقد أن تتابع الأحداث وانجلاء الحقائق قد برهن عليه وباتت أكثرية الشعب على قناعةٍ به، ولكن حال الواقع المصرى الذى أشرت إليه يدعونى إلى إعادة طرح الموضوع فى النقاط التالية : (1) من أدبيات الفقه السياسى والتجارب التاريخية للثورات، يتبلور تعريف الثورة بأنها الرؤية الجمعية والرغبة الحقيقية التى تُولد وتنمو لدى شعبٍ ما لإحداث تغييرٍ شامل -يراه صحيحاً ولازماً- لواقعه الحاضر ومستقبله، وشحذ إرادته الواعية وقدراته الذاتية بما يمكنه من إحداث هذا التغيير الأيديولوجى على كافة مسارات الدولة السياسية والاقتصادية والثقافية والاجتماعية. مع الوضع فى الاعتبار أن الحركة الجماهيرية كى تُوصف بالثورة وفقاً لهذا التعريف، لابد أن يسبقها إعدادٌ وتخطيطٌ ملموس بقيادةٍ وطنيةٍ محددة ولأهدافٍ ثوريةٍ واضحةٍ ومعلنة، ثم يواكبها قدرةٌ ذاتية مخلصة بآلياتٍ صحيحة تحقق تلك المبادئ والأهداف. ومع ملاحظة أن إسقاط نظام الحكم قد يكون من ضرورات الثورة، ولكن لا يمكن اعتباره بذاته فقط ثورةً بالمعنى الصحيح، فأنظمة الحكم يمكن سقوطها لأسبابٍ أخرى عديدة ولظروف مختلفة وهى ليست أسباباً وظروفاً ثورية. (2) لو أسدلنا هذا التعريف على أحداث يناير وأمعنّا النظر فيما سبقها وكان مجردَ دعوةٍ للاحتشاد والتظاهر للمطالبة فقط بإصلاحاتٍ سياسية، ثم ما واكبها من شعاراتٍ تغيرت وتدرجت بحسب تداعى الأحداث، ثم انهيار نظام الحكم وتخليه عن السلطة نتيجةً لأعمال التدمير والتخريب التى عمت ربوع الوطن، لأمكننا الجزم بأن ما أسفرت عنه تلك الأحداث وهو سقوط النظام، لا يمكن وصفه فى أحسن تقدير إلا كمقدمة ثورة وليس ثورةً بأى معيار. (3) هذه الوجهة من النظر لا تقلل إطلاقاً من قيمة وعطاء الهبّة الشعبية التى كانت يوم 25 يناير ولا تنال من نقاء وإخلاص غالبية المشاركين فيها، ولكن يجب الانتباه إلى أن التوصيف الخاطئ للأحداث يؤدى حتماً إلى نتائج سلبية تعيق مسيرة الوطن وتقدمه. (4) أصبح ثابتاً الآن أن تلك الجماعة الإرهابية هى من خططت ونفذت بالاشتراك والتآمر مع قوى أجنبية، كل جرائم التخريب والقتل والترويع التى عمت ربوع الوطن بدءاً من يوم 28 يناير، ولأنها تعلم على وجه القطع واليقين أن تلك الجرائم الآثمة كانت هى السبب المباشر فى سقوط النظام آنذاك، فقد ظلت حريصةً كل الحرص على وصف تلك الأحداث بالثورة حتى يظل وجودها مشروعاً وبخلفيةٍ مقبولة، كما كان إصرارها على التمكين لنفسها والاستئثار بكل مقاليد السلطة، اعتقاداً منطقياً منها وشعوراً واقعياً بأنها صاحبة تلك الثورة المزعومة. ومن هنا كان ومازال استمرارها فى عملياتها الإرهابية لاسترداد شرعيةٍ وهميةٍ تستند لثورةٍ مزعومة غزلت خيوطها بنواياها الخبيثة، وللأسف فقد ساعدها البعض بحسن نية فى نسجها بإطلاق وترديد مصطلح الثورة عليها. ورغم أن التاريخ دائماً ما يضع فى النهاية التوصيف الصحيح لأحداثه مهما كان الضجيج الزائف حولها، وأن ما يبقى من هذا الضجيج يذهب جفاءً بعيداً عن جوهر الحدث، مثلما كان الضجيج لوصف قرار الإطاحة بمراكز القوى بثورة 15 مايو، فلم يبق من هذا الضجيج سوى تسمية أحد الكبارى بهذا الاسم، إلا أن ما يقلقنى أن الضجيج بالتوصيف الخاطئ لأحداث يناير 2011 يُبقى لنا جماعة الإخوان الإرهابية بكل شرورها ومخاطرها، ويهيئ لها مرجعية تستند إليها لاستمرار وجودها. E-Mail :