الإسلام دين ودولة، علم وعمل، نظرية وتطبيق، ليس الإسلام كهنوتياً، ولم يدعُ إلى الرهبنة، بل دعا إلى الأخذ بالأسباب والسعى فى الأرض والتماس أبواب الرزق وعمارة الأرض باعتبار الإنسان جاء إليها مستخلفاً فيها بنص العديد من آى الذكر الحكيم. واقتضت سنة الله الكونية أن يحتكم الناس إلى مبادئ عامة تحكم وجودهم بدلاً من التصارع والاقتتال والوحشية، فنشأ علم العمران الإنسانى، وسُنت القوانين، واختار الناس من يضمن تحقيق هذه القوانين ووضعوا السلطة فى يديه، ورفعوه فوقهم وسموه «الحاكم أو السلطان»، ليكون هو الحكم الفصل بين الجميع. وجاء الإسلام وأقر مبدأ الحاكمية للبشر، «أنتم أعلم بأمور دنياكم»، وأعطى السلطة الكاملة للعقل البشرى كى يختار بين البدائل المتاحة، وكى يفكر فى استغلال وتسخير موارد هذا الكون، بدءاً من رسالة النبى الكريم ثم تأسيسه لدولة الإسلام فى المدينةالمنورة، ثم اتخاذه للتدابير السياسية اللازمة لحماية الدولة الوليدة من أعدائها. وأمر الإسلام مواطنى تلك الدولة بإعانة الحاكم والانصياع له ومد يد العون له فى كل ما يخص الوطن، وألا يرغبون بأنفسهم عن نفسه، أو يتفلتوا من معونته، أو يُنفضوا أيديهم من هموم وأحزان الوطن، فذكر لهم أمثالاً من أولئك الملوك الذين طلبوا معونة شعوبهم، مثل ذى القرنين، حينما استنجد به قومه، فقال لهم (فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُم رَدْمًا) فى مثل قرآنى رائع، يمثل التحام الشعب مع القائد، ثم تكليل هذه الوحدة بالنجاح. ويستمر القرآن الكريم حاثاً على تلك المعاونة، ومنادياً الشعوب الإسلامية بها وذلك عبر ضرب الأمثال بأنبيائه، فسيدنا لوط عليه السلام، كان سبب ضعفه الرئيسى عدم وجود من يعاونه أو يحمل معه هم الدعوة، وذلك ما عبر عنه القرآن صراحة بقوله (لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ)، أى لو توافر لديه من يعينه على اتمام دعوته وحمايته لنجح فى تلك الدعوة. وسيدنا عيسى عليه السلام، عندما نادى على قومه، أيكم يعيننى، وأيكم يلتحم معى فى خندق واحد، (كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنصَارُ اللَّهِ) أجابه جمع غفير، نحن أنصارك يا نبى الله . وتلك هى ذات المعونة التى طلبها نبى الله موسى من ربه صراحة حيث ناشده قائلاً: (وَاجْعَل لِّي وَزِيرًا مِّنْ أَهْلِي {29} هَارُونَ أَخِي {30} اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي {31} وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي). بل إن القرآن لم يقتصر فى حثه للمؤمنين على معاونة الحاكم بضرب الأمثال للأنبياء والصالحين فقط، بل ضرب المثل بفرعون، ذاك المستبد الذى استخف قومه فأطاعوه، حينما وقف منادياً على هامان، وزيره الأظلم، وقال له: (يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَّعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ {36} أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَىإِلَهِ مُوسَى)، حتى الحكام الظالمين طلبوا معونة وزرائهم وشعوبهم، ولم تكن تلك هى المرة الوحيدة التى يطلب فيها فرعون المعونة، بل طلب من قبل المعونة من السحرة (وَأَرْسِلْ فِي الْمَدَآئِنِ حَاشِرِينَ {111} يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ) ثم طلب معونة الجند كما ذكرهم القرآن إذاً لم يقتصر طلب الحاكم للمعونة من شعبه على الصالحين فقط، بل حتى الفراعنة والظالمين طلبوا معونة شعوبهم والوقوف إلى جوارهم والاصطفاف صفاً واحداً لمواجهة العدو رغم ما هم عليه من باطل وفساد. ونحن إذ نستعيد هذه الأمثلة الحية، فإننا اليوم فى أمس الحاجة إلى ذاك الاصطفاف الوطنى وتلك المعونة التى يقدمها الشعب للحاكم، وذاك الالتحام بين الجميع، شركاء لا فرقاء، إخوة يجمعنا سقف وطن واحد، وتحيط بنا الأخطار من كل مكان، وتحدق بنا المصائب، وتشتد بنا الأهوال. مصيرنا واحد، وهمومنا واحدة، وغمنا واحد، ونحن شعب واحد.... إننى أنادى بأعلى صوتى على أولئك الذين اصطفوا فى الماضى السحيق لبناء الأهرامات، وأولئك الذين اصطفوا فى الماضى القريب لحفر القناة وبناء السد، وأولئك الذين تضافروا بالأمس لحفر قناة جديدة تكون رغداً لهم ولأبنائهم، أرجوكم، اصطفوا فى هذه اللحظة لمواجهة المحن المحدقة بنا من كل جانب، فالخطر جسيم، والخسارة فادحة، والشرر المتطاير سيحرق الجميع، لن ينجو أحد، حتى أولئك الذين لجئوا إلى الصوامع والكهوف واكتفوا بمشاهدة الدماء وهى تسيل، هؤلاء أيضاً مشاركون فى ضياع الوطن لا قدر الله، لأن الظالمين لا يفرقون بين مسلح وأعزل، ولا بين صغير وكبير، ولا بين من يبيع نفسه فداءاً لوطنه ويقيناً فى ربه، وبين من يبيع نفسه فداءاً لآل صهيون. أيها السادة، باسم الإنسانية أناديكم، الدماء التى تسيل هى دماء حرام، ومواجهة القتلة فريضة، والاصطفاف خلف الحاكم فريضة واجبة، ومد يد العون للسلطة فريضة متحتمة، والاصطفاف الوطنى والالتحام الشعبى مطلوب فى أيام بات شرها مستطيراً، فهل نعى هذا الدرس، وهل ننقذ حضارة دفعنا فى بنائها زهور شبابنا وفلذات أكبادنا وقروناً خلت من أعمارنا، لعلنا نستفيق يوماً، ولعل الله يرحمنا.