أحد أبرز التناقضات في السياسة الأمريكية حالياً التي ظهرت بوضوح، أن استراتيجية أوباما في الشرق الأوسط، تعانيها، وتنعكس على مصالحها وعلاقاتها بدول المنطقة، قد يفسر أسبابها قول أحد المحللين الأمريكيين أخيرا: إن أوباما محاصر الآن بين تغييرات عالمية اعترف بها منذ أول يوم لدخوله البيت الأبيض، تتطلب فكراً سياسياً متغيراً للتواؤم معها وليس الصدام بها، وبين قيود تكبل تفكيره، ترفض التخلي عن دور أمريكي لم يعد ممكناً القيام به في هذا العالم المتغير . إن جذور المشكلة ترجع إلى الشعار الذي رفعه أوباما لحملته لانتخابات الرئاسة عام ،2008 وهو شعار التغيير؛ والذي كان سبباً في فوزه بالرئاسة، نتيجة اتساع قاعدة المؤيدين للشعار، والذين شاركوا بفاعلية في الترويج له، وساندوا حملته التي أوصلته إلى البيت الأبيض . لكن مشكلة هذا الشعار- التغيير - إنه لم يكن من إبداع أوباما، لكنه اشتقه من حملة سبقت ترشيحه بثلاث سنوات، تزايدت بين الرأي العام، والنخبة، ترفض سياسات بوش الخارجية، وتطبيقه حرفياً لبرنامج جماعة المحافظين الجدد، التي تؤمن بفرض الهيمنة الأمريكية على الدول الأخرى، ولو بالقوة . وهو ما كانت قد نصت عليه استراتيجية السياسة الخارجية المعلنة عام ،2002 والمتضمنة مبدأ الضربة الاستباقية ضد عدو محتمل، ونقل المعركة إلى أرضه، قبل أن يبادر هو بالهجوم . إلى جانب البنود الثمانية الأخرى في هذه الاستراتيجية، والتي أضفت عليها وصف السياسة الخارجية الهجومية . إن الولاياتالمتحدة كانت قد بدأت تواجدها المؤثر في الشرق الأوسط، في فترة انتهاء الحرب العالمية الثانية، ثم راحت توسع مواقع مصالحها في المنطقة . وبعد انتهاء الحرب الباردة، وزوال الاتحاد السوفييتي، أصبحت هي القوة العظمى الوحيدة، وتحددت في استراتيجيتها العالمية، أهمية الشرق الأوسط . ومنذ بداية القرن الواحد والعشرين، أبدت الولاياتالمتحدة اهتماماً متزايداً بالشرق الأوسط، فخلال ثماني سنوات من حكم بوش ابتداء من عام ،2001 اعتبرت أن الشرق الأوسط، ومشروعها للشرق الأوسط الكبير، على قمة أولويات أمنها القومي . وبعد مجيء أوباما عام ،2009 فإنه أعاد التركيز على مفهوم الشرق الأوسط الكبير، وأظهر ذلك أقصى درجات التناقض، فهو يعيد تبني جزء أساسي من استراتيجية بوش للسياسة الخارجية، والتي كان الرأي العام الذي انتخب أوباما رافضا لها في مجملها . ثم جاءت أحداث ما وصف بالربيع العربي، لتشهد المنطقة على ضوئها، ممارسات أمريكية تهدف إلى وضع مشروع الشرق الأوسط الكبير، موضع التطبيق، وهو ما اتضحت معالمه في الدعم المستتر لوصول ما وصفت بالأحزاب الإسلامية (الإخوان أساساً)، إلى السلطة في مختلف الدول العربية . وظهر ذلك واضحا في مصر، وتونس، وليبيا، وغيرها، ولما كانت هذه الممارسات ضد المنطق، والتيار التاريخي للتغيير الذي يجتاح العالم، والذي نشطت من خلاله تحركات جماهيرية ترفض حكم الاستبداد الداخلي، والهيمنة الخارجية على السواء، وتطالب باستعادة استقلالية القرار السياسي . من ثم كانت ردود الفعل للسلوك الأمريكي، سبباً للارتباك، والانقسامات داخل إدارة أوباما . وهو ما نتج عنه تراجع مصداقية أمريكا في المنطقة . وأدى ذلك بدوره إلى تصاعد تحركات إقليمية لدول طامحة، في ملء الفراغ الناشئ عن تراجع نسبي في الدور الأمريكي، وتمثلت أساساً في تركيا، وإيران، وأيضاً "إسرائيل" . وساعد هذه الأطراف مناخ الفوضى الذي خلقته التدخلات الخارجية في مسار الربيع العربي من أول لحظة . إضافة إلى ما قدمته هذه الفوضى من إغراء للمنظمات الإرهابية، للانتشار في إطارها غير المنضبط، والتي ينتعش ويتكاثر فيه الإرهاب . ودعمت ذلك رؤية أمريكية قاصرة، وجدت من مصلحتها مساعدة من وصفتهم بجماعات الإسلام السياسي، رغم ما هو معروف لديها من خلال الوثائق، وقائع المحاكمات، وتقارير مكتب التحقيقات الفيدرالي، وغيرها، من ارتباط هذه الجماعات، وبالتحديد تنظيم الإخوان، بمختلف المنظمات الإرهابية، بدءاً من القاعدة، ثم ما تفرع عنها تحت مسميات أخرى، وأنها جميعاً تتقاسم نفس التوجهات الفكرية . في هذا المناخ كانت تركيا قد سارعت إلى استغلال فرصة وصول "الإخوان" إلى الحكم في مصر، لإطلاق مشروعها، لقيامها بدور إقليمي ودولي، يبني على تنسيق بدأ منذ عام ،2006 مع "الإخوان"، والذين كانت تستضيفهم في مؤتمرات تعقد في اسطنبول، وفي ترتيبات لمخابراتها مع بعض كوادر الإخوان، ومنهم من أقام في تركيا في هذه الفترة . أيضاً كانت إيران - إثر أحداث الربيع العربي، قد أطلقت تصريحات توحي بأن هذه الأحداث، جاءت متأثرة بالثورة الإيرانية وأفكارها، وأقامت اتصالات غير رسمية مع نظام الإخوان في مصر، تدفعها نفس الأحلام التركية، بينما تحلم إيران باستعادة تاريخ الإمبراطورية الفارسية، ولكن بثوب جديد ومختلف . وإن بقي الربيع العربي يمثل لإيران فرصة، وتحدياً في الوقت نفسه، فهي توسمت في النظام الإخواني، فرصة للتحالف معه، لكن تنامي التوجهات داخل المنظمات الإسلامية ضد الشيعة، وإيران بالتالي، كان مصدر شعور لدى إيران بالتحدي . في الوقت نفسه كانت "إسرائيل" في هذه الأجواء، تعزز من طموحاتها في تحقيق أهدافها، عن طريق فرض الأمر الواقع، مستثمرة حالة الفوضى في أجزاء من العالم العربي، والخلافات الفلسطينية - الفلسطينية، والتحيز الأمريكي، الذي يرفض كلامياً سياستها الاستيطانية، من دون فعل حقيقي . وهو ما يشكل دعما لمبدئها السياسي بفرض الأمر الواقع . كانت استراتيجية أوباما المليئة بالتناقضات، تنعش - ولو بطريق غير مباشر - كل هذه السلوكيات، ومثلما بدأ أوباما رئاسته، ممزقاً بين الضرورات المنطقية لتبنيه شعار التغيير في العالم، والذي أوصله للبيت الأبيض، وبين عدم تقبل موروث لفكره قرب أفول القرن الأمريكي، وقيام قرن متعدد الأقطاب، فإن مسلسل التناقضات استمر ممسكا بتلابيب أوباما . وظهر ذلك بشكل صارخ في استخراجه مبدأ قديماً في السياسة الخارجية، كانت المخابرات المركزية، شريكا في تنفيذه . وهو مبدأ "الوكلاء"، الذين يستخدمهم في تنفيذ سياساتها، وحماية مصالحها . هذا المبدأ ربما كانت الأوضاع الدولية، في فترة تبوؤ أمريكا قيادة النظام العالمي، تساعد عليه، لكن ما جرى من تحولات دولية بصعود الصين، ودول أخرى، ثم ما أوجده الربيع العربي - قبل التآمر عليه- من صحوة شعوب ترفض الهيمنة أياً كانت صورها وأشكالها، لم يعد يتيح أي فرصة لبعث نظام الوكلاء، من مرقده . نقلا عن صجيفة الخليج