ظلت زينب الوكيل رقماً غامضاً ولغزاً لا ينفك في تاريخ مصر الوطني وتاريخ الوفد.. وظلت طيفاً باهتاً مصاحباً لتاريخ مصطفي النحاس.. وظل الوفديون يدافعون عن زينب الوكيل باعتبارها حرم الرئيس الجليل ولا يليق أن تعلق بالزعيم شاكبة ولا سيما وهم يعلمون أنهم يردون أسهماً وقذفاً فيه من الخسة الكثير بهدف النيل من الرجل الكبير بإلقاء القذف علي زوجته. ولم يزل الوفديون يؤدون دورهم الدفاعي في هذا الشأن بصورة ميكانيكية دون نظر طويل أو استغراق في سيرة تلك المرأة ودورها وماذا قدمت وكيف تحملت... وكان عتاة الوفديين يثورون ثورة بالغة إذا سرد أحدهم ما تم اعتياده وتداوله من أقوال فارق السن وانها قد أثرت علي صناعة القرار لدي الزعيم وانها... وانها... وما شابه من تلك الاتهامات التي لا أصل لها من قريب أو بعيد سوي ثرثرات الساسة وتلميحات الصحافة وعلي رأسها مدرسة أخبار اليوم التي اعتمدت سياسة هدم الوفد والنيل من «النحاس» وإزالة الحزبية وبالطبع تسريبات وأكاذيب مكرم التي حشاها بكتابه الأسود هذا فيما قبل 52... ثم اعادة ترويجها وتضخيمها بشكل فاضح ومستمر وبفجاجة وخسة لا تليق فيما بعد 52 وكانت الذروة الكبري بإحالة حرم الزعيم إلي محكمة الثورة! وكان أبي رحمه الله وهو من عشاق «النحاس» يغضب بشدة إذا تناول أحدهم سيرة حرم الزعيم ولم يكن ينعتها إلا بزينب هانم الوكيل احتراماً وتقديراً ومحبة لها في مواجهة موجات الكيد والافتراء والظلم الموجه لها... ولكن بقيت زينب الوكيل هاجساً في ضمير الوفديين لم يقدم أحد علي فك طلاسمه... فكان من المدهش والمؤلم حقاً أن تمر كل تلك السنين ولا يتقدم وفدي ببحث جاد في تاريخ تلك المرأة وبتجميع الوقائع والشهادات المختلفة من المؤيدين والخصوم ويفندها بطريقة علمية ومنهجية تاريخية تعطي لكل حادثة وواقعة قدرها وتزيل ما علق من أتربة وغبار عليها... فجاء الباحث الشاب المجتهد المدقق والصحفي المتميز مصطفي عبيد ليبحث ويكشف ويفند ويستعرض سيرة تلك المرأة الفاضلة التي أعطت فقط ولم تنل سوي حملات البغض والتشنيع المتتابعة من قهر وخسة ودناءة... جاء مصطفي عبيد في لمحة تاريخية بارعة وذكية ليرد الاعتبار لسيرة زينب الوكيل مستنداً للوثائق المنشورة والصحف المعاصرة لمختلف الوقائع والأحداث وللروايات الحية من الأقارب والمعاصرين للأحداث... جاء في اللحظات الأخيرة الفاصلة قبل أن يذهب من عاصروا تلك السيدة الرائعة ليمسك مصطفي عبيد بتلابيبهم ويستنطق الأحداث والشهود والروايات في علمية صارمة وبحث تاريخي جاد وفي مقارنة وتدليل وتدقيق للروايات والكتابات المختلفة للحدث الواحد لإثبات الحقيقة وإظهارها وتبيان الملفق والمدسوس... وليستعيد لزينب هانم الوكيل حرم الرئيس الجليل حقها واعتبارها التاريخي في كتابه الرائع وبحثه الشيق المعتبر «زينب الوكيل- سيدة مصر- سيرة حياة حرم مصطفي النحاس». يعرض المؤلف لنشأة أسرة «الوكيل» وأصولها توضيحاً لطبيعة مكانتها الاجتماعية كما يتعرض لعائلة والدة زينب الوكيل وتراثها وكذا أشار لحال كونها كبري بنات عبدالواحد الوكيل وتعليمها وثقافتها وفي كل هذا هو يؤصل ويبني حقائق ما ورثته زينب الوكيل من ثروة عبر والدها ووالدتها في مواجهة اتهامات الثراء والتربح التي واجهتها قبل 52 ثم قدمت علي أساس شائعاتها إلي محكمة الثورة فيما بعد 52 ليثبت بوضوح حجم الكيد والافتراء الذي وجه لها. غاص المؤلف في واقعة تأخر زواج مصطفي النحاس وبحث بحثاً مستفيضاً في الروايات التي ظلت تطارد «النحاس» عن علاقته بأوروبية غامضة أو مصرية مطلقة... مبدداً تلك الشائعات التي ساهم في ترديدها بلا هوادة مصطفي أمين ومحمد حسنين هيكل! تابع المؤلف العلاقة بين «النحاس» وزينب الوكيل وكيف تم التعارف وأوضح ليلة القران والمشاركين فيها وفرحة المصريين بزواج زعيمهم وبالطبع كان لهذا انعكاساته علي القصر في غيرة ونفور... وفي ذلك الحكي أثبت تلفيقات العديد من الكُتاب والصحفيين في روايات مزعومة حول زينب الوكيل... واسترسل المؤلف عبر فصول كتابه لتوضيح تشكل ونمو العلاقة بين الزوجين والرفق والمودة التي حملها كلاهما لبعضهما البعض ولعل أبرز ما نجح فيه المؤلف بشاعريته ورهافة حسه ودقة متابعته هو توضيح حجم المحبة والولاء الذي حملته زينب الوكيل لزوجها ونمو تلك المحبة والعرفان والتقدير إلي الشعور بالمسئولية وتحمل التبعات والمواجهة الكاملة بالطبع في السنوات الأخيرة للزعيم وهو بهذا الخيط الدقيق يوضح بجلاء لا لبس فيه حجم المحبة التي حملتها زينب الوكيل وملأت حياتها ودفعت لها ثمناً غالياً في مواجهة حملات الطعن والتشنيع وصولاً إلي محاكمتها شخصياً ومصادرة أموالها وقبلت دائماً بنفس راضية قوية صامدة أن تكون هي الهدف الدائم لكل من يريد أن ينال من الزعيم... وفي كل هذا الخضم من الموجات المتلاطمة حرصت علي الرعاية والعناية بالرجل الكبير بكل محبة وإخلاص حتي انها فنيت فعلياً بفنائه فلم يمر عامان علي رحيل الزعيم حتي لحقت به زوجته الفاضلة في محبة وأثرة وجود وعطاء... ولعل هذا الخيط الدقيق يبدد الهواجس العالقة بفارق السن بين الزوجين وأثرها علي صناعة القرار لدي الزعيم وفي الحقيقة فإن الثمن الذي تكبدته زينب الوكيل وعائلتها من مصادرة لأموالهم في أعقاب 52 كان هو المقابل الحقيقي لمصاهرة مصطفي النحاس لتلك العائلة. نجح المؤلف في استقصاء كافة الوقائع والاتهامات التي حاصرت زينب الوكيل ففندها وأورد تفاصيلها والردود عليها بما فيه إجلاء وابراء لذمة السيدة الفاضلة... وجاء البحث في لغة طازجة معاصرة سهلة ولكنها أيضاً محكمة ومتينة وزود المؤلف بحثه بمجموعة واسعة ونادرة من الصور والوثائق... وكان لافتاً للنظر غياب شهادات عائلة «النحاس» من أبناء أشقائه وشقيقاته ولعل المؤلف قد واجه صعوبة في العثور عليهم ولا شك أيضاً انه قد مضي الكثيرون من قدامي الوفديين إلي بارئهم ممن افتقدت مع غيابهم شهاداتهم. أحبت زينب الوكيل شقيقها الأكبر مصطفي الوكيل الذي مضي مبكراً وارتبطت بمصطفي النحاس الذي رأت والدتها فيه عوضاً عن ابنها الأكبر الذي فقدته كما ورد بالكتاب فتزوجته وكان مصيرها في مصيره وأفنت حياتها في حياته... أما ثالث مصطفي فكان مصطفي عبيد الذي جاء ليمسح الضباب عن سيرة حياتها... وليبذل جهداً بحثياً ناء عن فعله أفراد ومؤسسات كان أولي بها أن تسعي له... رحم الله زينب الوكيل وجزاها عما قدمت وأعطت وجادت.