«لا تظلموا الموتى ولو طال المدى/ إنى أخاف عليكمو أن تلتقوا».. بهذا البيت الشعرى لأبى العلاء المعرى يفتتح مصطفى عبيد كتابه الجديد عن السيدة زينب الوكيل حرم مصطفى باشا النحاس. الكتاب يقع فى مائتى وأربعين صفحة من القطع المتوسط وقد صدر الشهر الماضى عن دار الرواق للنشر، لكنه دخل فى أقل من أسبوعين ضمن قائمة «الكتب الأكثر مبيعاً» فى مكتبات دار الشروق التى تتولى توزيعه. والكتاب يعتبر أول دراسة حقيقية تتناول سيرة حرم مصطفى النحاس، والتى لم يرد ذكرها إلا يسيرا فى بعض كتابات خصوم الزعيم المحبوب مصطفى النحاس وكان ذلك بغرض الهجوم والتلفيق وهو ما دعا مؤلف الكتاب أن يعيد طرحه وتسجيله مفنداً وداحضاً وباحثاً عن الحقيقة. لقد جاءت «زينب» كما يقول الكاتب من الظل إلى النور حيث دنيا الرجل المتوج على قلوب ملايين المصريين. وقفت إلى جواره فى سنوات هى الأصعب والأشرف فى تاريخنا الحديث. شاركته انتصاراته وانتصارات مصر وشعبها فى مواجهة سلطة ملكية مستبدة، واحتلال بريطانى بغيض، وتلقت سهام الحساد والخصوم فى صبر وجلد يليق بسيدة عظيمة. وكان خصوم الوفد وسماسرة السياسة والمنتفعون بالملك فاروق يهاجمون النحاس باشا من خلال زوجته. يختلقون حولها الحكايات ويروجون عنها الشائعات وينشرون ضدها المقالات والافتراءات بلا حدود فى الصحف والمجلات وحتى فى الكتب للانتقاص من قدره، وكان الرجل يبتسم فى صبر وهو يعلم مقدار عطائه للأمة المصرية. وبعد ثورة يوليو اتسع حجم الافتراء وزاد عدد الخصوم وصار واضحا أن كثيرين صعدوا إلى رضا السلطة على حساب النحاس باشا وحرمه وتشويه صورتيهما. وعلى مدى 13 عاماً ساندت السيدة العظيمة زوجها بكل ما تملك. باعت حُليها وأثاث منزلها لتكفل له مصروفات علاجه حتى لقى ربه فى 23 أغسطس 1965، ولم يمهلها القدر أن تعيش طويلاً بعده، ففى 9 نوفمبر 1967 رحلت زينب الوكيل لتلحق به فى دار الحق، بعد أن صبرت طويلا على افتراءات وأكاذيب دار الباطل لتطوى صفحة من المجد لم يكتبها أحد، ولتثبت أنها لم تطق الحياة بعده سوى عامين فقط، وتعجلت اللحاق به رغم أنها لم تكن قد جاوزت عامها الخامس والخمسين. ويقول المؤلف فى مقدمة كتابه إنه كان من المؤسف أن كثيرين ممن أنصفوا النحاس باشا بعد وفاته، فاتهم أن يذكروا خيراً للسيدة العظيمة التى كانت تقف إلى جواره وتسانده وتشاركه همومه وأحلامه، متناسين فى ذلك الحكمة الشهيرة التى طالما سمعوها بأن «وراء كل رجل عظيم امرأة»، بل إن بعضهم اعتبر تلك السيدة أساءت إلى النحاس باشا وإلى الوفد ومسيرته، رغم أن أعظم ما قدمه الوفد من إنجازات وعطاء لمصر كان خلال السنوات التالية لزواج النحاس باشا بزينب الوكيل. فتاة من الظل تحت عنوان «فتاة من الظل» يحكى مصطفى عبيد عن ميلاد «زينب» عام 1912 فى قرية سمخراط بالبحيرة فى عائلة نبيلة عرفت باسم الوكيل، لأنها كانت تتولى وكالة الحجاج المصريين إلى الأراضى المقدسة. فى ذات العام يلاحظ الكاتب أنه شهد ميلاد سيدات كثيرات عرفهن التاريخ السياسى مثل إيفا براون عشيقة هتلر، والسيدة وسيلة زوجة الزعيم التونسى الحبيب بورقيبة، والمطربة أسمهان. إن عائلة «الوكيل» واحدة من العائلات الثرية التى نزحت إلى مصر من الجزيرة العربية خلال العصر العثمانى، وحازت عشرات الآلاف من الأفدنة وامتد نفوذها فى محافظة البحيرة لدرجة أنه تم تمثيلها فى أول مجلس نواب مصرى عام 1866. ويحكى الكتاب كيف شارك إبراهيم الوكيل وهو جد زينب فى الثورة العرابية ثم ساند سعد باشا زغلول فى جمع التوكيلات للتحدث باسم الشعب المصرى، كما كان لابنه عبدالواحد الوكيل والد زينب دور فى مساندة حزب الوفد بعد ثورة 1919. إن أبناء عبدالواحد الوكيل تعلموا كما يتعلم أبناء الأسر العريقة فى ذلك الوقت، حيث اهتم والدهم بتعليمهم اللغتين الفرنسية والإنجليزية، إلى جانب التعليم الدينى المُتمثل فى القرآن وعلومه وبعض العلوم الشرعية. وثمة إشارات متكررة لالتحاق زينب فى الرحمانية بمدرسة ما ابتدائية، لكن ما يؤكده عدد من أفراد عائلتها هو أنها التحقت بمدرسة المير دى ديو فى جاردن سيتى بعد انتقالها إلى القاهرة، وهناك تعرفت الفتاة الصغيرة على العلوم واللغات المختلفة، وخرجت بعدة صديقات كانت أبرزهن صديقة السلحدار التى ظلت على علاقة وطيدة بها بعد زواجها. وبين القاهرة وسُمخراط تنقلت زينب مع عائلتها التى بدأت فى مد جسور التعارف والمصاهرة مع عائلات أخرى عن طريق الصداقة والشراكة التجارية. لقد كان بيتا عبدالواحد الوكيل فى مصر الجديدة، وحدائق القبة محلا لاجتماعات كثير من صفوة المجتمع من عائلات كبرى وأعضاء مجلسى نواب وشيوخ وموظفين كبار فى وزارات مختلفة وأعيان وأصحاب أراض وصحفيين وكتاب، وهم الذين كانوا يرون زينب ويعتبرونها جديرة بالزواج من رجل عظيم يعرف لها حقها ويستحق جمالها وذكاءها. وفى يوم ما رأت السيدة ليزا مقار وهى صديقة عايدة حرم مكرم عبيد زينب فى منزل والدها بحدائق القبة وتحدثت إليها وأعجبت بلباقتها ولطفها وجمالها، وطلبت صورة منها احتفظت بها إلى حين لتكون فيما بعد بين يدى مصطفى النحاس الذى كان يبحث عن عروس. النحاس عازباً ويستعرض الكتاب فى فصل كامل أسباب تأخر زواج النحاس، وما ذكره البعض عن علاقة غرام ربطته بفتاة نمساوية أو إيطالية تدعى «فيرا». إن مصطفى باشا النحاس من مواليد 15 يونيو 1879 ظل حتى الخامسة والخمسين دون زواج والسؤال المهم هنا هو لماذا ظل النحاس باشا عازبا لنحو 23 عاماً بعد تخرجه فى كلية الحقوق؟ إن الثابت طبقا لتحليل شخصية مصطفى النحاس أن هناك حقيقتين مهمتين أولاهما أنه كان مستقيماً ومتديناً لدرجة يصعب معها تخيل دخوله فى علاقات غير مشروعة قبل الزواج، والثانية أنه كان مُنشغلا بشكل قاسٍ بالقضية الوطنية. ويكفى الإشارة إلى أن ثورة 1919 قامت والنحاس على مشارف الأربعين من عمره، فضلاً عن كونه فقيرا ليس له دخل سوى إيراد مكتب المحاماة. كما أنه كان مُحملاً بعبء الإنفاق على أبناء أخته نظراً لاحتياجهم الشديد. وفى تلك الأثناء كانت القضية الوطنية هى شغله الشاغل، بل هى كل حياته. وقد نُفى مع سعد زغلول عام 1921 وظل ثلاث سنوات فى المنفى. وحتى بعد عودته من النفى واستقراره النسبى فى مصر انشغل بالترافع فى قضايا الجهاز السرى لثورة 1919، وكان له دور فى إنقاذ رقبتى أحمد ماهر والنقراشى من الإعدام عندما اتُهما بالضلوع فى اغتيال وقتل الإنجليز والمتعاونين معهم خلال الثورة. لقد أثر ذلك على حياته الاجتماعية بشكل كبير، لدرجة أنه رفض كمحام كثيراً من القضايا بسبب التفرغ لهذه القضية. ويحكى إبراهيم فرج جانباً من الظروف المادية التى أحاطت بالنحاس وقتها والتى جعلته أبعد عن ترف الزواج فيقول: «امتنع علينا قبول أية قضية أخرى فى الوقت الذى كان فيه مصطفى النحاس فى أمس الحاجة إلى المال لمواجهة متطلبات حياته وحياة أولاد شقيقته وعندما أشرت إليه من طرف خفى إلى ظروفه المالية الخاصة قال لى: يا إبراهيم. إن قضية ماهر والنقراشى قضية خطيرة ولها آثار بعيدة بالنسبة لمصر وللوفد». ولم يلبث أن توفى سعد باشا زغلول فى اغسطس 1927 وعمر النحاس يتجاوز بقليل الثامنة والأربعين، وصار عليه بعد انتخابه رئيساً للوفد عبء كبير يتمثل فى سد الفراغ الناتج عن رحيل زعيم كاريزمى نادر. لقد ظلت ثورة 1919 لنحو 15 عاما متصلة تناضل وتكافح ويجاهد أبناؤها لتحقيق استقلال الوطن، وصار واضحا فى 1934 وبعد سلسلة ضربات موجعة من الإنجليز والقصر وإسماعيل صدقى أن الثورة انتهت، وأن أقصى ما يمكن تحقيقه هو ما تحقق بعد ذلك فى معاهدة 1936. وخمدت روح الثورة تماماً بعد سلسلة مصادمات وصدامات حادة وكفاح مرير، وشعر كثير من الوفديين أنه آن الأوان للراحة بعد 15 عاماً من المعاناة، من الألم، من الفقر، من النفى، ومن الملاحقات البوليسية والدفاع الدائم عن استقلال مصر. هنا فقط يمكن فهم رغبة مصطفى النحاس فى الزواج. إنه إنسان طبيعى وسوى، وفوق ذلك متدين ومستقيم، والمفترض أن يكون له زوجة، وعائلة مثل باقى البشر. وربما رأى النحاس أنه آن الأوان أن يستريح وأن يتحول نضاله الوطنى من مرحلة الثورة إلى مرحلة السياسة. هنا فإن زواجه يساعده نفسيا على قبول تلك الفكرة، لأن الأسرة بغض النظر عن موعد إنشائها تعتبر بمثابة علامة طمأنينة واستقرار. البحث عن أسرة لم يتزوج الزعيم المحبوب من الملايين وقتها عن قصة حب، وإنما كان يبحث عن لحظات راحة، عن أمان اجتماعى بعد أن يتجاوز سن المعاش ويجد من يرعاه فى شيخوخته ومرضه. كان زواجه عقلياً تماماً، فهو يبحث عن سيدة محترمة سليلة بيت شريف تعرف قدره، وتحترم زعامته. كان الرجل يبحث عن سيدة تمنحه العطاء العاطفى الغائب عنه طوال سنوات النضال والكفاح والثورة. لقد كان النحاس باشا يدرك دون شك أن من حقه أن يمارس حياة طبيعية مثل كل الناس، وأن تكون له زوجة تشاركه الحياة بعد أن قاربت على نهايتها. ربما كان هذا تصوره عندما أبدى الرغبة لأصدقائه وأهله فى الوفد فى الزواج. ولاشك أن سن الخامسة والخمسين هى الوقت الأخير الذى يمكن أن يتزوج فيها فى ظل قانون اجتماعى يحرم الأرملة من معاش زوجها العامل فى الحكومة إن اقترنت به بعد تجاوزه سن الخامسة والخمسين. ويقع الأستاذ محمد حسنين هيكل فى خطأ مهم عندما يكتب أن النحاس ولد سنة 1879 وتزوج سنة 1935، أى أنه لست وخمسين سنة من عمره ظل أعزب. وهذا التاريخ يختلف تماماً عن الموعد الحقيقى لزواج النحاس والذى ذكر فى معظم المصادر وكان 12 يونيو 1934. إن إحدى الحواديت الشهيرة لزواج مصطفى النحاس يرويها كريم ثابت المستشار الصحفى للملك فاروق فى مذكراته التى حملت عنوان «عشر سنوات مع فاروق». يقول كريم ثابت: «قرر النحاس فى سنة 1934 أن يتزوج، وقرر أن يتزوج قبل 15 يونيو لأنه فى يوم 15 يونيو سنة 1934 كان سيبلغ الخامسة والخمسين، وقانون المعاشات لموظفى الحكومة المصرية فى ذلك الوقت يحرم الأرملة من نصيبها فى معاش زوجها إذا تزوج بعد بلوغه الخامسة والخمسين. وكان لمكرم عبيد والسيدة قرينته صديقان عائليان هما جاك ميلاد والسيدة قرينته ليزا مقار، وذكر مكرم أمامهما يوما أن النحاس يفكر فى الزواج ويبحث عن عروس. فقالت السيدة ليزا، إنها لما كانت تقيم فى حدائق القبة كانت تسكن فى فيلا مجاورة لدار عبدالواحد الوكيل بك وأسرته فأدى تزاور العائلتين إلى نشوء علاقات صداقة وود. وقالت إن لعبدالواحد الوكيل عدة بنات وإن أكبرهن تدعى زينب لم تتزوج بعد وهى على جانب كبير من الذكاء والجمال، وإنها تعتقد أنها العروس التى تصلح للنحاس. وكان مكرم عبيد يعرف عبدالواحد الوكيل ويقدر سجاياه، فأعاد على النحاس ما سمعه من ليزا مقار، فصاح النحاس قائلا: بنت عبدالواحد الوكيل يستحيل. ده خرج من الوفد. فقال له أحدهم إنه لم يخرج من الوفد، وإنما استقال من الهيئة الوفدية فى عهد وزارة إسماعيل صدقى، ليدرأ عن نفسه اضطهاد الحكومة فى مصالحه ولم ينضم إلى حزب آخر. وقال آخر: إن السياسة شىء والزواج شىء آخر. وأخيراً طلب النحاس أن يأتوا له بصورة زينب الوكيل قبل أن يقرر قراره النهائى، وجلبت السيدة ليزا مقار صورتها فما كاد يراها حتى أعجب بها، وأعرب عن رغبته فى زيارة العائلة ليتسنى له أن يراها. وتمت الزيارة، ولما عرف زينب ازداد إعجابا بها، وسارع إلى طلب يدها. وتم عقد القران فى سنة 1934 أثناء وزارة «عبدالفتاح يحيى». وتظهر قصة الزواج بدون تفاصيل فى بعض صحف تلك الفترة حيث تشير جريدة الأهرام فى خبر لها منشور فى 13 يونيو 1934 إلى حفل الزفاف فتقول: «قبل أن وافت الساعة السادسة من بعد ظهر أمس أخذت السيارات المقلة للعظماء والكبراء والوزراء السابقين والوجهاء تيمم تجاه ضاحية حدائق القبة إلي شارع شفيق باشا, حيث تقوم دار آل الوكيل الكرام أصهار حضرة صاحب الدولة الرئيس الجليل مصطفي النحاس باشا، ففي هذه الدار تولي حضرة صاحب الفضيلة الشيخ إبراهيم الغاياتي صيغة عقد قران دولته بسليلة المجد الآنسة النجيبة زينب الوكيل هانم، وقد وزعت عليهم الحلوي والمرطبات وأخذ المصورون صورا عديدة لدولة الرئيس والحفلة الأنيقة. ثم جلس دولة الرئيس في وسط الحفل المبتهج واستمعوا إلي قصيدة عامرة ألقاها الشاعر الكبير عباس محمود العقاد, ثم وقف المطرب المبدع الأستاذ محمد عبدالوهاب فأطرب الحاضرين بصوته العذب الحنون في قطعة ترنمت بها نبرات الموسيقي تقول: النيل يهني بفرحة شخصك الغالي / والأمة تهتف وصوتها في الهتاف عالى/ لمصطفاها العظيم والكوكب الهادي / الله يبارك زواجك يا زعيم النيل / وينصرك والوطن ع الظالم العادي. وكان من المثير للاستغراب أن هذه الاغنية التى شدا بها عبدالوهاب مهنئاً زعيم الأمة وعروسه، وكتب كلماتها شاعر غنائى اسمه حسنى عبدالحميد فقدت من سجلات أغانى عبدالوهاب. أما قصيدة الشاعر عباس محمود العقاد فقد بدأت أبياتها بقوله: باسم مصر أزجى تهانى مصر / لأمين على اسم مصر حسيبُ. ولاشك أن هذا الحدث كان محط فرحة عارمة فى ربوع مصر من ملايينها التى عشقت مصطفى النحاس حتى التقديس، وفرحت لفرحه، وابتهجت لسعده. وليس أدل على ذلك من برقيات التهانى التى تلقتها جريدة الجهاد لسان حال الوفد فى ذلك الوقت بنبأ قران الزعيم. وقد وصل الأمر بجموع العامة إلى إقامة حفلات متنوعة بمختلف الأحياء تم خلالها توزيع الحلوى والمشروبات وقراءة القرآن. وراء كل عظيم امرأة وفى السنوات الأولى كانت زينب تدرك أن الرجل العظيم يجب أن تكون وراءه امرأة عظيمة. تؤمن بمبادئه وتدرس أفكاره وتقدم المشورة، وتهيئ المناخ اللازم لاستقرار إنسانى دافع إلى الأمام. كان النحاس بالنسبة لها هو ذلك الرجل العظيم، والذى يجب أن تكون زوجته مثله وطنية ونزيهة ومثمرة. وهنا، فإننا نلمح تعليقاً منصفاً للأستاذ محمد حسنين هيكل عندما يقول بشأن زواج النحاس إنه «كان زواجا سعيدا، ومع ان فارق السن كانت له أحكامه، فإن شباب الزوجة توازن مع مكانة الزوج زعيما معترفا به للسواد الأعظم من شعبه». وقد لاقت زينب فى بدايات زواجها مشكلات كادت تعكر صفو حياتها، خاصة عندما اختلف الكاتب الكبير عباس محمود العقاد مع مكرم عبيد ثم امتد هذا الخلاف ليشمل الوفد كله مع كيل الاتهامات والأوصاف السخيفة للنحاس باشا نفسه، ثم امتد هذا الهجوم بشكل غير منطقى إلى زينب زوجة النحاس والتى لم تكن معروفة جيدا بعد، وهو ما تستنكره السيدة فاطمة اليوسف فى مذكراتها، وتقول إنها لم تكن راضية عن ذلك. والمؤسف أن العقاد كان حاداً فى خصامه كما هو حاد فى محبته، ولاشك أن تعرض زينب الوكيل لهجوم غير مبرر وانتقاد غير وجيه فى بداية زواجها بسبب اقترانها بزعيم الوفد قد أكسبها صلابة وقوة احتمال ستجعلها فيما بعد أكثر قدرة على مواجهة سهام النقد واتهامات الخصوم بصدر رحب وقدرة موضوعية على الرد والمواجهة. حدود التدخل فى السياسة إن صورة السيدة صفية زغلول ومكانتها لدى الناس جعلت زينب تقتنع أنه ليس عيباً أن يكون لها دور فى الحياة السياسية يتمثل فى مساندة الوفد ومواجهة خصومه وردهم والدفاع الدائم عن الزعيم المحبوب من الشعب. لقد فكرت ونجحت فى أن تقدم نموذج الزوجة العاقلة المتزنة القادرة على تقدير مكانة زوجها أفضل التقدير، ولاشك أن أسرتها التى تعلم تماما قيمة وقدر مصطفى النحاس كانت تدفعها دفعاً فى هذا الاتجاه. لقد صار النحاس باشا بالنسبة لها ولعائلتها كبير العائلة الذى يُستشار فى كل أمر وتكون له الكلمة النافذة والأخيرة. وربما نلمح ذلك فى فقرات متعددة من مذكرات النحاس كما أملاها على محمد كامل البنا سكرتيره الخاص. فى مدونات عام 1940 يحكى النحاس باشا: «حدثتنى زوجتى بأن شقيقها أحمد الوكيل يريد أن يتزوج وقد اختار ابنة صبحى الشوربجى التاجر المعروف لتكون عروسا له فسألت أحمد هل كان اختيارك لأن العروس راقتك أم لأن أباها تاجر ثرى، فقال لأنها فتاة جميلة مثقفة وقد أعجبت بها، قلت إذا كان ذلك فعلى بركة الله ويحسن ألا تبالغوا فى حفلة العرس نظراً للظروف الحاضرة». وهنا، فإننا نرى النحاس باعتباره كبيراً للعائلة يراجع صهره ليعرف إن كان الزواج مبنياً على مطمع مالى أم اعجاب حقيقى. ويحكى أيضا عن زيارة وفد من لجنة السيدات الوفديات له تتقدمهن حرم إسماعيل حب الرمان وسكينة الكفراوى وأنيسة الرشيدى وإلقائهن لخطابات سياسية، ويقول: «صافحت الوفد النسائى واحدة واحدة وطلبن أن يقابلن حرمى فالتقت بهن وتركتهن يتحدثن فى مختلف الشئون». ولاشك أن مقابلة حرم النحاس للوفد النسائى ضرورة فى حزب سياسى يدافع عن حقوق المرأة ويعظمها ويراها بأنها نصف المجتمع. لقد ظهرت زينب الوكيل فى كثير من لقاءات الباشا مع عائلات سياسية، واجتمعت مع كبار رجال الأحزاب وأسرهن، وحضرت حفلات عديدة باعتبارها زوجة رئيس وزعيم أهم وأكبر حزب فى مصر. لم يكن ذلك تدخلاً سلبياً فى السياسة ولكنه تدخل محمود يساوى اقترانها بزعيم سياسى كبير. لقد أقيل النحاس سريعا فلم يكد عام 1937 يقارب الانتهاء حتى أرسل الملك فاروق له خطاب الاقالة، والواضح أنه لم يكترث كثيرا بعد أن أوفى بجانب كبير من مطامحه فى الحصول على وعد بالاستقلال. ويبدو أيضا أن السيدة حرمه لم تكترث كثيرا بإقالة زوجها وظلت إلى جواره تساند نضاله ضد الطغيان الملكى، وفى دعم تماسك وشعبية الحزب الذى يمثل حضناً للمصريين.