«نبتدى منين الحكاية».. هي إحدى الأغنيات الطويلة التي كتبها الراحل محمد حمزة، ولحنها موسيقار الأجيال محمد عبدالوهاب، والغناء للعندليب الأسمر عبدالحليم حافظ. وهى إحدى الأعمال الغنائية التى قليلاً ما تقدم علي خشبة المسرح خلال سنوات ما بعد رحيل عبدالحليم حافظ، نظراً طول الأغنية، فهي تستغرق الساعة أو أكثر قليلاً، لكنك عندما تستمع إلي هذه الأغنية تشعر بالإشباع الممزوج بالاستماع حتي النخاع. وفي الليلة الخامسة من ليالى مهرجان الموسيقي العربية قدم هذه الرائعة المطرب والملحن أمجد العطافى، وكان أداؤه بنفس مستوي رقي الكلمة واللحن. والعطافى من الأسماء المعروفة كملحن قدم أعمال الكبار المطربين في العالم العربى مثل وردة وجورج وسوف وآخرين. وهو أحد أقدم الأصوات في فرق الموسيقي العربية بدار الأوبرا، ولكن بعيداً عن حرفية أداء هذا الفنان، فهذا العمل الغنائى الذي مر علي إنتاجه ما يقرب من 40 عاماً يعد درساً للأجيال الشابة التي تتحدث عن رشاقة وسرعة الجملة الموسيقية، فهذا العمل يضم مجموعة من الجمل الموسيقية كل جملة تساوى تاريخ مطرب من المطربين الموجودين علي الساحة الغنائية حالياً، كل جملة موسيقية تساوي مائة لحن من الألحان التي يقدمها ملحنو هذا الجيل، الذين يتبارون للظهور علي الشاشة للحديث عن أعمالهم ذات المستوي المتدنى والهابط، والتي لا يتجاوز عمرها الفني أكثر من دقائق بعد طرحها في الأسواق. وهذا هو الفارق بين جيل العظماء الذين رحلوا تاركين خلفهم ثروة قومية لا تقدر بثمن، وبين جيل يصنع أغنية هشة في كل شىء. هذا هو عبدالوهاب القيمة والقامة. وهؤلاء هم ملحنو هذا العصر الذين أخذوا الأغنية المصرية من القمة إلي القاع، بالدرجة التي أدت إلي أن هناك مناطق آخر باتت تصدر الغناء الجاد مثل الدول الخليجية، وأصبحت مصر تقدم أغانى المهرجانات ونجومها أوكا أورتيجا وغيرهما. لكن بعيداً عن انتشار هذه النوعية من أغانى الهلس، فهناك بالتبعية تقصير كبير من كبار المطربين الذين ساهموا في هذا الانهيار بطريقتين، الأولى عندما استسلموا لما يقدم من غناء هابط واكتفوا بالتصريحات الصحفية، والثاني عندما تعاون معظم كبار المطربين مع أصحاب الأغاني الهابطة، والكلمات الركيكة بحثاً عن نجاح مؤقت، فهناك أسماء من كبار مطربينا تعاونوا مع الموجى، وبليغ حمدى، وكمال الطويل، ومحمد سلطان، وأقصد هنا جيل الوسط الذي يضم مجموعة من أهم الأسماء التي أنجبتها مصر، لكن حدث نوع من عدم الاتزان لدي بعضهم أدى إلي تعاونه مع أسماء لا تساوي موهبتهم، بحثاً عن الموضة المنتشرة، فسقطوا في فخ الغناء العشوائى المبني علي جملة موسيقية «مسلوقة» ومسروقة. فى الوقت الذي توجد فيه قائمة طويلة من الملحنين الكبار ممن استلموا الراية من السنباطى والموجى والطويل وبليغ وبعضهم ينتمي لهذا الجيل مثل محمد سلطان وآخرين جاءوا بعدهم مثل حلمي بكر ومحمد على سليمان وفاروق الشرنوبى وصلاح الشرنوبى وأحمد الحجار وغيرهم. وهذا أمر محير، فالمطرب دائماً يسعى لمن يستغل إمكانياته الصوتية، ولا أحد يستطيع أن ينكر قيمة وعمق ورشاقة ألحان محمد على سليمان مثلاً، أو حلمي بكر أو محمد سلطان، لكن السعى والجرى خلف الموضة جعل البعض يرفض العمل مع هؤلاء الملحنين ويذهب للتعاون مع أى ملحن ممن يضعون الألحان العشوائية التي تعتمد على جملة راقصة أو حزينة. «نبتدى منين الحكاية» التي استخدمتها كمدخل لقضية أكبر ليست العمل الوحيد الذي يضم مجموعة من الجمل الموسيقية والصولوهات الرشيقة الراقصة والعميقة في نفس الوقت، لكن 90٪ من أعمال عبدالوهاب سوف تجد فيها هذه الرواية، وأعمال السنباطى بكل عبقريتها. هل تتذكرون جملة «هل رأى الحب سكارى» في قصيدة «الأطلال» للسنباطى ومدى رشاقتها، وهل تذكرون أغنية «القلب يعشق كل جميل» أيضاً للسنباطى وبيرم التونسي وهل تذكرون أعمال بليغ التي نُهبت عن قصد. هذا هو الفارق بين جيل عظيم يعلي قيمة الموسيقي والغناء. وجيل حالى من الملحنين يري في نفسه أشياء لا نراها فيه وهي الموهبة.