كنا- نحن أبناء أخبار اليوم من الجيل الثاني- ننقسم.. منا من ينتمي إلي علي أمين.. ومن ينتمي إلي مصطفي أمين.. ودخلت أخبار اليوم في مايو 1959 فوجدت الدار وكلنا نحب علي أمين.. ونحترم مصطفي أمين.. الأول رغم قسوته الظاهرة وقراراته العنيفة والعفوية كان النصف الأكثر طيبة.. والثاني يبتسم في وجهك.. ولكنه يراقب كل تصرفاتك.. ولذلك كنا نحب علي أمين.. ونخشي مصطفي أمين!! الأول كان يمكن أن يطاردك- إذا أخطأت- ويحمل الكرسي ليضربك به.. والثاني كان يحتضن بذكاء حتي المخطئ منا. وأتذكر أن علي بك أمين فصلني وطردني ظهراً.. وفي صباح اليوم التالي أعاد تعييني.. بل منحني مكافأة عشرة جنيهات، وكان ذلك عام 1960.. ولكنني التصقت أكثر بمصطفي أمين. لأنه هو الذي منحني فرصة العمل بأخبار اليوم، وكنت بعد طالباً بالسنة الثالثة بقسم الصحافة بجامعة القاهرة. بل ضاعف مكافأتي الشهرية وكانت خمسة جنيهات عندما علم أنني أعمل بقسمين بدار أخبار اليوم وليس بقسم واحد.. وهو الذي رشحني للأستاذ بسام فريحة مدير عام دار الصياد اللبنانية عام 1972 لكي أحرر لها أخباراً من أبوظبي للنشر بصحيفة الأنوار بصفحة «أخبار الخليج». أما العبقري أحمد رجب فكان يميل إلي علي أمين وكان يعتبره والده الروحي ربما لأن علي أمين هو ملك الكتابة الخبرية القصيرة.. ولذلك نجد أحمد رجب هو أبدع من يختصر.. ومن يكتب مقالاً من كلمات قصيرة تعبر أكثر مما يكتب الكبار ولو من خلال صفحات.. وكان أحمد رجب هو أبرع من يختصر.. كان يمتلك القدرة علي اختصار موضوع من أربع صفحات ليحوله إلي ورقة واحدة.. وربما أقل!! التقيت أحمد رجب- أول مرة- في مكتب أخبار اليوم بالإسكندرية فوق سينما مترو بشارع صفية زغلول.. وكنت مكلفاً بعمل تحقيق عن توزيع الأرباح علي عمال مصانع الإسكندرية وكفر الدوار.. وكان ذلك بمكتب الرجل حسن صبحي مدير المكتب.. وكانت المرة الأولي التي اتحدت فيها إلي أحمد رجب.. وان كنت رأيته كثيرا في الممر نصف الدائري بالطابق الثاني من المبني التقليدي التاريخي وكان وقتها مديراً لتحرير مجلة الجيل، أو سكرتيرا لتحريرها، وقت أن كان أستاذنا موسي صبري هو رئيس تحريرها.. وكان في الوقت نفسه نائباً لرئيس تحرير جريدة الأخبار.. وأتذكر أول حوار كتبته مع فنانة سورية ناشئة ولما قدمت له الحوار.. لمح جليل البنداري- صاحب أطول لسان في الوسط الصحفي أيامها- فناداه قائلاً «إلحق يا عم جليل.. واحد عايز ينط» علي شغلك في السينما والفن.. واللافت للنظر أن مكتب أحمد رجب هذا، كان في الأصل مكتباً للعديد من العمالقة الذين عملوا في أخبار اليوم، أولهم توفيق الحكيم ثم كامل الشناوي ثم جلال الحمامصي ثم موسي صبري ثم أنيس منصور وسعيد سنبل.. وآخرهم كان هو أحمد رجب.. وفيها ولدت أفكار وشخصيات الكاريكاتير الشهيرة التي عبرت أفضل تعبير عن واقعنا المصري مثل: عبدالروتين، وعباس العرسة، وعبده مشتاق، ومطرب الأخبار، وفلاح كفر الهنادوة.. إذ فيها كان يلتقي أعضاء مجلس الكاريكاتير الذي ابتدعه مصطفي وعلي أمين وكان من أعضائه معهما: د. سعيد عبده، وجليل البنداري، وصاروخان، وبيكار، وكامل الشناوي، ورحل كل هؤلاء ولم يبق منهم إلا أحمد رجب.. ومصطفي حسين.. وشاء القدر إلا ن يرحلا معاً- وخلال شهر واحد- إذ قبل أن يمضي 30 يوماً علي رحيل الفنان مصطفي حسين.. يلحق به نصفه «المفكر» الثاني: أحمد رجب وكأنهما تعاهدا أن يرحلا معاً.. والعجيب أنهما رحلا من نفس الغرفة وهي رقم 212 بالمركز الطبي العالمي بطريق الإسماعيلية. ونجح أحمد رجب- رحمه الله- أن يعبر- بأقل عدد من الكلمات عن أعقد مشاكل الأمة المصرية.. سواء فيما يكتبه من تعليقات علي الكاريكاتير الذي كان يرسمه مصطفي حسين، وكان هو في الغالب صاحب معظم هذه الأفكار والرسوم، أو سواء ما كان يكتبه في زاوية شديدة الاختصار 2/1 كلمة!! حتي أصبحت هذه الزاوية هي أشهر وأقصر عمود في الصحافة المصرية وربما العالمية.. وإذا كان علي أمين هو صاحب فكرة الاهتمام بالصفحة الأخيرة في صحفنا اليومية وحولها بذلك لكي تقرأ الصحيفة من الصفحة الأخيرة بدلا من الأولي.. فإن أحمد رجب كان القارئ يبحث عن فكرته.. زاويته 2/1 كلمة.. ولا جدال أن كاريكاتير الثنائي أحمد رجب ومصطفي حسين وزاوية نصف كلمة كانت وراء بقاء صحيفة الأخبار، الصحيفة الشعبية الأولي في مصر، حتي الآن.. وحسناً فعلت أسرته عندما حجبت عن أحمد رجب خبر رحيل مصطفي حسين.. لأنه برحيلهما- وخلال شهر واحد- فقدت دار أخبار اليوم آخر جيل العمالقة الأفذاذ: علي أمين، والحمامصي، ومصطفي أمين، وموسي صبري، وسعيد سنبل، وأنيس منصور.. ولا أتخيل هذه الدار- التي اعتبرها بيتي الأول والأكبر- بدون هؤلاء العباقرة.. وإن كان عزائي أن الجيل الجديد الذي يتولي مسئولية هذه الدار وصحفها ويقودهم ابن عزيز من أبنائها وهو نجل صحفي قديم- حتي النخاع هو الراحل الزميل فتحي رزق- أقول إن العزيز ياسر رزق قادر علي أن يقود سفينة الدار إلي بر الأمان.. وأن يعبر بها إلي الآفاق الجديدة التي يحلق فيها الآن الإعلام الجديد.. ليواكب مصر الجديدة.. ورحم الله آخر عمالقة الدار الذي كان يعبر بصمته- وبأقل الكلام- عن كل الغلابة، في بر مصر..