بشجاعة محارب لا يعرف لليأس سبيلاً فعل «السيسي» ما لم يفعله رئيس من قبل وأغلب الظن ما لن يفعله رئيس من بعد.. أقدم الرجل الذي خدم تراب الوطن طيلة عقود بعد انتقاله للحياة المدنية لمنح الاقتصاد الوطني قبلة الحياة بقرار رفع أسعار الطاقة وهى الخطوة التي اعتبرها البعض الأكثر شجاعة ودقة منذ عدة عقود.. وبينما كان مبارك يقدم على رفع الأسعار محتمياً بترسانته الأمنية، لم يستثمر السيسي في قراره سوى ما لديه من ثقة وقبول في قلوب ملايين المصريين الذين منحوه أصواتهم.. حتى أولئك الذين يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف قبلوا تحمل عبء رفع اسعار الطاقة من أجل إنقاذ بلد تركه مبارك ديكتاتوره المستبد على شفا الموت المحقق وعلى عكس ما يظن البعض فقد جاء قرار السيسي بمثابة اقتراع جديد على شعبيته بين الجماهير وهو ما يؤهله للبقاء في سدة الرئاسة. تحديات صعبة تشهدها مصر خلال هذه المرحلة فقد تسلم الرئيس عبدالفتاح السيسي البلاد وهى تعاني من الانهيار في كافة المجالات، وكان قرار رفع أسعار الطاقة خطوة جريئة وشجاعة منه لم يقدر على اتخاذها الرئيس مبارك من قبل، ليبدأ بذلك أولى خطوات تأسيس الدولة الحديثة، وسط تعهدات من الرئيس بتنفيذ التزامات تعيد للدولة هيبتها، وللمواطن كرامته، وتحقق مبادئ ثورتي 25 يناير و30 يونيو رغم وجود الكثير من المعوقات الداخلية والخارجية وأصبح عليه أن يبذل قصارى جهده ليحقق آمال وطموحات الشعب الذي منحه ثقته. على مدار سنوات طويلة كانت فكرة الغاء الدعم تراود رؤساء مصر الا أنها لم تؤخذ محمل الجد، فلم تكن سوى مجرد أفكار ومقترحات يرددها المسئولون ما بين الحين والآخر ولم يقترب منها أحد خوفاً من فقدان السلطة ففي عهد الرئيس الراحل انور السادات الذي اعتمدت سياسته على الرفع التدريجي للدعم، قام برفع الدعم عن بعض السلع، مما أدى لثورة الشعب ضده عام 1977، فخرج العمال والموظفين وجميع فئات الشعب معترضين علي سياسته، وبعد رحيل السادات لوح الرئيس مبارك وكبار مسئوليه أكثر من مرة بالغاء الدعم الا أنه لم يجرؤ على الاقتراب منه بعد أن وعي الدرس جيداً، فخشى من ثورة الشعب ضده ولضمان استمراره في السلطة وتوريث ابنه فما كان منه الا أن لجأ لرفع الاسعار ما بين الحين والآخر، في الوقت الذي ظل دخل المواطن ثابتاً، فازداد الفقراء جوعاً والأغنياء ثراء، حتى ساءت أحوال البلاد وتدهورت الأوضاع الاقتصادية وثار الشعب ضده بعد أن عجز عن تلبية أبسط احتياجاته. اصلاح الخلل اشار الرئيس عبدالفتاح السيسي خلال لقائه مع رؤساء تحرير الصحف والاعلاميين، الى أن القرارات الأخيرة الخاصة بخفض الدعم عن الطاقة تهدف لاصلاح الخلل في منظومة الدعم، الذي استمر ما يقرب من 50 عاماً، وتقاعست أنظمة وحكومات عديدة عن مواجهته، مشيراً الى ان المخاطر والتحديات التي تواجهها مصر خطيرة جداً، وتم تجاهلها حتى أصبح الناس غير مستعدين لمواجهة تلك التحديات، حيث إننا ندفع ثمن أخطاء حكومات سابقة كانت تدير البلاد بسياسة «يوماً بيوم» دون تخطيط لسياسات المستقبل، فالجميع كان يتجاهل دعم لطاقة من أجل الحفاظ علي مقعده وحتى يستمر في السلطة. اصلاح هيكلي وذكرت صحيفة «فاينانشيال تايمز» البريطانية أن قرار رفع اسعار الوقود الذي يهدف الى الحد من العجز الهائل في الميزانية من خلال خفض دعم الطاقة يعتبر إصلاحاً هيكلياً ضرورياً تم تأجيله مراراً من قبل الحكومات السابقة، خوفاً من اثارة غضب واضطراب اجتماعي في الدولة في ظل مستويات الفقر المرتفعة، والاقتصاد المتدني، وأضافت: ان هذا القرار يضع مصر في موقف قوي عند مطالبتها بالحصول على قرض من صندوق النقد الدولي في الأعوام القادمة. وأشارت الى أن ردود الفعل ستكشف ما اذا كان الرئيس السيسي يتمتع بشعبية كبيرة قادرة على تهدئة غضب الفقراء، خاصة أن قرار الغاء دعم الطاقة كان يعارضه الرئيس مبارك بينما كان المعزول محمد مرسي، يسير في الاتجاه نحوه من أجل معالجة عجز الموازنة. عصام شيحة المحامي عضو الهيئة العليا بالوفد، يقول: منذ اندلاع انتفاضة الخبز عام 1977 وقتها حدث نوع من الخوف لدى الحكومات المتعاقبة عند الحديث عن الغاء الدعم، أو حتى مجرد استخدام كلمة ترشيد الدعم، كما كانت الكلمة تصيب صانع القرار بالهلع، لأنه كان يصطدم بالرأي العام الغاضب والقوى السياسية التي كانت تستقبل الأمر، إلا أن تفاقم الدين العام جعل الرئيس يدرك حجم الأزمة، والظروف الاستثنائية التي تعيشها مصر، بعد أن أوشكت على الوصول لحافة الإفلاس، وقد أقدم السيسي على اتخاذ قرار تخفيض الدعم متمتعاً بحب الشعب له، ولعدم وجود بدائل أخري للحفاظ على مصر، الا بهذه الطريقة، لأننا بذلك سنضطر بعد ثلاث سنوات لالغاء الدعم، وقصره على الطبقة الفقيرة فقط، فهو شر لابد منه، فهذا القرار الجرىء بمثابة قرار «مدفعية ثقيلة» لأنه ضرب طلقة يترتب عليها طلقات كثيرة وسبق للرئيس عبد الفتاح السيسي أن شبهه بقرار الحرب، فنحن الآن في وضع سيئ، إذ لدينا عدو داخلي يريد أن يدمر البلاد، تربص من القوى الدولية والاقليمية، وأرى أن قرار خفض الدعم، هو قرار شجاع ولابديل عنه، وعلينا أن نخفف من آثاره في الامد البعيد، وخاصة على الفقراء، ومن ناحية اخرى لابد أن تقوم كافة الاجهزة الرقابية الموجودة بالدولة بدورها في ضبط الأسواق ولا يجب أن نترك المواطن فريسة لجشع التجار، فبالرغم من ضخ المؤسسة العسكرية للعديد من السلع، ودفع اتوبيسات الجيش لنقل المواطنين، الا فإن المواطن لديه شعور بالقلق، خشية أن يكون ذلك أجراء مؤقتاً ينتهي بانتهاء حالة الغضب الموجودة في الشارع، لذا لابد من تفعيل دور الأجهزة الرقابية بالتعاون مع منظمات المجتمع المدني من أجل ضبط الأسواق. قرار جرئ الدكتور الشافعي بشير، أستاذ القانون الدستوري بجامعة المنصورة، يقول: نعم لقرار خفض الدعم من رئيس الجمهورية، فقد سبق ولوح الرئيس السيسي قبل الانتخابات بهذا القرار الذي يعد قراراً مدروساً وشجاعاً، ولم يكن أحد لديه الشجاعة في عهد الرئيس السادات ومبارك باتخاذ مثل هذا القرار، فزادت المشكلة سنة بعد الاخرى، وأصبح الآن لابد من قرار شجاع لرفع قامة هذه الدولة بعدما وصلت اليه من تدهور على مدار 30 سنة حكم دون أن يواجه الرئيس مبارك خلالها مشكلة الدعم خوفاً من عدم توريث السلطة لابنه، فقام بتعديل الدستور، لكي يمهد الطريق لتوريث ابنه، دون أن يعدل قوانين الدعم فوصل العجز في ميزانية الدولة لأكثر من 500 مليار جنيه، ذكر من قبل أن السيسي لم يفعل سوى شد أعمدة البيت حتى لا تسقط، فكان لابد من اتخاذ هذه القرارات الشجاعة ويجب على كل مواطن مصري أن يدفع الزيادة عن طيب خاطر، ويستكمل قائلا: ان التفكير في احتمالية أن تكون فترة حكم السيسي فترة انتقالية أمر غير واقعي، لأن انتخابه جاء بعد ثورة الشعب في 30 يونية ضد حكم الاخوان وبحسب برنامجه الذي أعلنه وما يتوقعه الشعب معه فإنه مستمر في فترة رئاسته لأربع سنوات والتي سيقيمها الجميع، ليرى الشعب اذا كانت انجازاته على قدر ما وعد به أم لا؟ ونحن على أمل كبير أن يحقق ما يحلم به الشعب المصري من «عيش وحرية وعدالة اجتماعية وكرامة انسانية» فقد اعلنها بوضوح ان حانت ساعة العمل لذا نأمل خيراً في المرحلة المقبلة، خاصة أن الرئيس طلب من الشعب تقييمه بعد مرور عامين من حكمه، فالسيسي رجل عسكري منضبط وسيحسن انجاز مهامه وسيتمكن خلال فترة حكمه من اقامة العديد من المشروعات وعلينا التحمل من أجل عبور تلك المرحلة. المستشار محمد حامد الجمل، رئيس مجلس الدولة الأسبق، يقول: يمارس الرئيس عبدالفتاح السيسي مهامه الرئاسية بعد اداء اليمين الدستورية وعليه أن يلتزم بتحقيق أهداف ثورتي يناير و30 يونية اولاً، ثم يبدأ بالقضاء على الارهاب، وإعادة الامن ومعالجة الأزمة الاقتصادية الخانقة، وتنفيذ المشروعات الكبرى مثل مشروع ممر التنمية، ولابد أن يستمر بنفس الدوافع والكفاءة خلال المرحلة المقبلة مع مراعاة احترام الدستور، ومراعاة الحقوق العامة والخاصة للمواطنين مثل حرية الرأي والنقد في حدود الشرعية الدستورية، مع تحسين الأوضاع المعيشية للمواطن المصري الذي عاني كثيراً خلال السنوات الماضية وهو بذلك سيزيد من شعبيته، وسيطالب الجميع ببقائه في السلطة، فنجاحه في النهوض بالبلاد وبالمستوي الاقتصادي والاجتماعي والسياسي بها، سيعيد انتخابه لفترة رئاسية ثانية وفقاً لما ينص عليه الدستور، لكنه سيحتاج لبعض الوقت لمواجهة التحديات الداخلية والخارجية، ولا شك أنه خلال الثلاثة أشهر الاولى ستظهر بوادر انفراج للعديد من الأزمات التي يعاني منها المواطنون خاصة مشكلة البطالة وغلاء الأسعار ونقص الخدمات وانقطاع الكهرباء فالجميع ينتظر تغيير الاوضاع للأفضل، ويستكمل قائلا: مصر تعاني من أزمة اقتصادية طاحنة تتمثل في العجز في الميزانية العامة للدولة، وميزان المدفوعات، والعجز في الانتاج، والمأزق كان يكمن في كيفية عمل توازن بالدولة، واختارت الحكومة الالغاء الجزئي للدعم، مما يترتب عليه تأثيرات اقتصادية خطيرة في الحياة، حيث إن رفع اسعار الوقود بكل انواعه يؤدي لنتائج سلبية في السوق المصري، فضلاً عن أنها تعود على المستخدمين للوقود بعبء جديد وحتماً لابد أن يترتب على ذلك رفع الاسعار مما يكبد البسطاء ومحدودي الدخل اعباء جديدة، وكان يتعين على الحكومة الاخذ في الاعتبار بتلك الآثار السلبية، واختيار حلول اخرى للخروج من الأزمة الاقتصادية التي لم يقدم الرئيس مبارك أو الرئيس الراحل أنور السادات على اتخاذها رغم ما كانت تعانيه سياساتهم من سلبيات، وذلك لأنهم كانوا يدركون جيداً ما سيترتب على هذا القرار من مخاطر جسيمة، لذا كان كل رئيس يفكر في الغاء الدعم دون اتخاذ اجراء حاسم تجاهه. أما أحمد عودة المحامي، عضو الهيئة العليا بالوفد، فيرى أننا بحاجة الى اصلاح الاقتصاد المصري، الذي يواجه مخاطر كبري بسبب حجم الديون التي تعاني منها الخزانة العامة والتي فاقت ديون الخديو اسماعيل، فأصبحنا نحتاج لمنظومة اصلاح اقتصادي، وهذا لن يأتي الا بفرض مزيد من الضرائب، ورفع الدعم كما حدث مؤخراً، ورغم أننا نرفض هذا الدواء المر، الا أننا على أمل العبور من تلك الأزمة، وانك انت تسبب لنا عناء ومشقة، لكننا مضطرون لتقبل الأمر بشىء من الصبر، من أجل مصلحة البلاد، ويستكمل حديثه قائلا: نحن بحاجة لثورة تشريعية وإصلاح اقتصادي واجتماعي خلال المرحلة القادمة فضلاً عن المصارحة والشفافية لأن الرؤساء السابقين لم يقوموا بالغاء الدعم حتى لا يثور المواطنون ضدهم، والآن بدأنا في بناء الدولة، وما حدث هو مجرد موجة عارمة أدت لمزيد من القلق في الشارع المصري، فيجب أن نعي ونقدر حجم ما تتكبده البلاد من ديون، فتلك القرارات الجريئة التي اتخذها الرئيس عبدالفتاح السيسي مطلوبة الآن من أجل مواجهة الحالة الاقتصادية. ويتساءل عودة قائلا: الى متى تظل مصر عالة على الدول العربية وتنتظر المساعدات الخارجية والمعونات؟ فمصر دولة عريقة لها مواردها، ولديها خيرات كثيرة يجب الاستفادة منها بالطرق السليمة، وطالما اقتضى الاصلاح الاقتصادي والنهوض بالبلاد الى الغاء الدعم فلابد لنا أن نتقبل الأمر بطيب خاطر طالما كان فيه مصلحة بلادنا وخروجها من عنق الزجاجة. دولة حديثة الدكتور أحمد يحيي - أستاذ علم الاجتماع السياسي بجامعة قناة السويس - يري أنه من المفترض أن يبدأ الرئيس عبدالفتاح السيسي مرحلة جديدة بتأسيس دولة مدنية تقوم علي العمل، والإنجاز من أجل حل جميع المشكلات التي يعاني منها المواطن المصري، مع ضرورة مراعاة وضع مصر علي الخريطة الاقتصادية الدولية والاهتمام بالزراعة والصناعة باعتبارهما جناحي التنمية الشاملة فضلاً عن الاهتمام بالصناعات المتوسطة، والصغيرة، وتحسين أوضاع الصحة والتعليم كمصادر أساسية لرأس المال الاجتماعي، وهذا ما وضح في خطابه والمهم الآن التنفيذ علي أرض الواقع حتي يكون لهذا الخطاب ترجمة حقيقية يشعر بها المواطنون جميعاً، ويؤمنون بصدق توجهاتها. تحقيق العدالة أحمد بهاء شعبان - الأمين العام للحزب الاشتراكي المصري المنسق العام للجمعية الوطنية للتغيير، يري أن الإجراء الأساسي الذي ينبغي أن يضعه الحاكم نصب عينيه هو تحقيق العدل الذي من خلاله يمكن تأسيس وجود حقيقي في المجتمع، ليس مبنياً علي الانفعال العاطفي أو المزاج النفسي المؤقت الذي يمكن أن يبرد ما بين ليلة وضحاها، فالعدل سيجعل هناك من يدافع عن النظام الجديد، أما إذا استمر الظلم الاجتماعي والسياسي كما هو عليه الوضع الآن، وظل المجتمع يعاني من الظلم والاستبداد والفساد، فهذا بلا شك سيؤثر سلباً علي مستقبل علاقة الرئيس بالشعب، الذي اختاره وعلق عليه العديد من الآمال، وطالبوه بالترشح للانتخابات الرئاسية، واختاروه ليكون رئيساً لمصر، وهذا يذكرنا بما حدث في عهد الخليفة عمر بن عبدالعزيز عندما أرسل إليه أمير حمص يخبره بأن الأعداء أحاطوا بمدينته، وطلب المدد منه، فرد عليه قائلاً: «حصنها بالعدل»، فالعدل إذا توافر في البلاد، فإن قواعد النظام سوف تترسخ.