مشكلة مصر المزمنة في تجارها، على أيديهم تفشل أية محاولة لإصلاح أحوال المصريين ورفع المعاناة عن كاهلهم، وما أن تتسرب شائعة عن زيادة في الدخول، إلا ويسارعون إلى امتصاصها قبل أن تدخل جيوب أصحابها، يرفعون الأسعار بنسبة تزيد دائماً علي نسبة الزيادة في المرتبات والمعاشات والدخول، يفعلون ذلك دون اي مبرر اقتصادي، إلا الجشع اللامتناهي، والطمع اللامحدود، لذلك لن تنجح اية حكومة في مصر بدون لجم هذا الطمع وذاك الجشع. تجار مصر يظلمون المصريين ظلماً مزدوجاً، وأحياناً ثلاثي الأبعاد، فهم يشترون إنتاج الفلاحين، والصناع بثمن بخس، وبهامش ربح يعادل ثلاثة، أو أربعة أضعاف الثمن الذي تم دفعه للمنتج الذي قضى شهوراً في عملية الإنتاج، ثم يبيعون نفس البضاعة دون أية إضافة من تصنيع، أو تغليف، أو وقاية صحية باربعة أضعاف الثمن الأصلي، وقد يشتريها المنتج نفسه بذاك السعر، ثم هم يستوردون «زبالة» العالم، وأسوأ منتجاته، ليبيعوها لهذا الشعب المظلوم باسعار فوق طاقته، يطوفون الدنيا بحثا عن أكثر السلع رداءة ليستوردوها، بل يستوردون اطعمة منتهية الصلاحية، اطعمة الكلاب، أو لحوم الوحوش والضواري لشعبهم، وابناء مجتمعهم، واهلهم، كل ذلك من أجل الثراء، والمتعة من دم الفقراء، وعلى حسابهم، حالة من التوحش الانساني، من اجل شاليه في الساحل الشمالي، أو سيارة أو حساب بنكي متضخم. وهذه ليست ظاهرة جديدة في مصر، ولكن للأسف ظاهرة متكررة، شهدتها مصر في فترات مختلفة من تاريخها، وبنفس الصورة، وأحيانا أقسى وأشد، ففي عهد الحاكم بأمر الله، الخليفة الفاطمي الذي حكم مصر من 996 إلى 1021م، انتشر ظلم التجار وجشعهم ومبالغتهم في الأسعار، كما انتشر الغش في البضاعة، وعدم النظافة في صناعة الأطعمة وتسويقها، فأمر الحاكم بنظام صحي في صناعة الخبز، وفي الجزارة، وفي نظافة المحال، والطرقات، ولكن المخالفين من التجار كانوا أكثر من الملتزمين بالقانون، وعلى الرغم من وجود عقوبات مثل الغرامة والسجن، إلا أن تجار مصر المحروسة، أو تجار القاهرة آنذاك لم يردعهم سجن ولا عقوبات مالية. الحاكم بأمر الله كان نصف عاقل، نصف مجنون، فتفتق ذهنه عن عقوبة عجيبة غريبة، أراد من خلالها أن يطبق الانضباط في الأسواق، والالتزام بالأسعار، والجودة في البضاعة، والعدل في المكاييل، والموازين، ولكن كانت وسيلته في ذلك غير مسبوقة ولا ملحوقة في اي زمان، لأنها ضرب من الجنون؛ دفعه إليه تجار القاهرة الجشعون الطماعون، فقد أمر الحاكم بأمر الله المحتسب، الذي كانت وظيفته ضبط الأسواق، والمحافظة على الأسعار وجودة البضاعة، والصحة العامة، والعدالة في البيع والشراء، أمر المحتسب أن يصطحب معه في جولاته في السوق عبدا قويا اسمه «مسعود»، وإذا وجد تاجراً يغالي في السعر، أو يغش في المكيال والميزان، أو يبيع بضاعة فاسدة، أو غير صحية، فإن المحتسب يأمر مسعود أن يفعل فيه الفاحشة امام الناس، وفي قلب السوق، وللاسف انضبط السوق، والتزم التجار، وطبق القانون، ولكن بمعصية، أكثر خطورة على المجتمع من جرائم التجار، ولكن هذا هو الحاكم بأمر الله صاحب الغرائب والعجائب. ولن يطالب عاقل بقانون الحاكم بأمر الله، ولكن العاقل سيجد من الصعب ان تتحقق أية محاولة للإصلاح الاقتصادي، أو العدالة الاجتماعية، أو رفع مستوى معيشة الإنسان المصري، أو نقل نصف الشعب المصري من حد الفقر إلى ما فوقه دون القضاء على هذه الظاهرة السلبية في مجتمع التجار المصريين، وذلك بتقليل عدد التجار الوسطاء بين المنتج والمستهلك، ووضع ضوابط لعلاقة التجار بالفلاحين، ووضع ميثاق شرف اقتصادي يحدد الحد الأقصى لهامش الربح في كل أصناف التجارة، وفي كل الخدمات، وقد يستلزم ذلك إنشاء نقابات لكل فئة من التجار ولكل فئة من المنتجين، مثل نقابة منتجي الفواكه والخضراوات، ونقابة تجار الفواكه والخضراوات، بحيث تكون النقابات هي المؤسسات الضابطة لهذه الأنشطة، وهي التي يناط بها تحقيق العدالة، ورفع الظلم عن جميع الأطراف. أستاذ العلوم السياسية جامعة القاهرة