لا شك أن الكثير من القضايا المجتمعية يجدر بنا التصدي لها في ظل أوضاع مستقرة؛ وبالتالي يمكن إرجاء تناولها علي نحو حاسم، إلي ما بعد الانتهاء من تشكيل المكونات الدستورية للدولة، بما يتوفر لها من رؤى متكاملة، وقدرة علي حشد كافة إمكانات الدولة في إطار من الشرعية الدستورية والقانونية، ما يسهم بالضرورة في وضع سياسات مستقرة من شأنها طرح معالجات ناجعة لتلك القضايا، تلقي قبولاً مناسباً، وتجاوباً واجباً من الشعب. والأمر علي هذا النحو لا يعني إهمالاً لما ينبغي أن يُبذل من جهود عاجلة في سبيل منع تفاقم تلك القضايا، بما يحول دون عرقلتها للمسيرة الثورية الساعية إلي مواصلة المضي قدماً باتجاه إنجاز خارطة المستقبل، وتلك مهمة تشكل محوراً رئيساً فيما هو موكول للحكومة الحالية من مهام ومسئوليات. غير أن إزاء «عاجل» القضايا الأساسية، لا تملك الدولة قدراً كبيراً من التمهل، وسعة من الوقت، لما لتلك القضايا من تداعيات شديدة الخطورة علي الأمن القومي للوطن، وما ينتج عن التأخر في التصدي، علي نحو فعال، من مخاطر وتحديات تحد من قدرتنا علي مواجهتها إذا ما تركت إلي حين اكتمال المؤسسات الدستورية للبلاد. في مقدمة تلك القضايا، يأتي سد النهضة الإثيوبي باعتباره قضية وجود للشعب المصري، توارت كثيراً خلف جملة من المزايدات السياسية، والممارسات الدعائية، حتى كاد الأمر يقترب من الحقيقة الماثلة أمام الجميع، فيما يعكس واقعاً مؤلماً لحجم ما تم إهداره من وقت وجهد في الاتجاه الخاطئ، وما نتج عن ذلك من تداعيات شديدة الخطورة علي أمننا القومي، ربما لا يعادلها ما تحقق من خطوات موفقة في إنجاز خارطة المستقبل. فليس من شك أن السياسة الخارجية تصنع أولاً في الداخل، انطلاقاً من مقومات القوة الشاملة للدولة؛ ومن ثم فإن معادلات تقدير الوزن النسبي للدولة علي المستويين الإقليمي والدولي، لا تقتصر علي عوامل تاريخية، لطالما تغنينا بها طويلاً دون عمل يدعم وجودها. كذلك لا تكفي الآفاق المستقبلية العريضة، ذائعة الانتشار في الخطاب السياسي، بديلاً عن إنجاز حقيقي علي الأرض. واليوم ونحن في غمار صراع السباق الرئاسي، ومن بعده المعركة الانتخابية المتعلقة بالبرلمان، فإن حزب الوفد، يجد لزاماً عليه إعادة ما سبق وأن حذر منه، إبان فترة حكم الإخوان، من أن ملف قضية سد النهضة الإثيوبي، لا ينبغي أن يغيب عن أولويات الدولة، بما له من خصوصية شديدة، تجعل منه ركناً أصيلاً من مسئوليات الأجهزة السيادية المنوط بها حماية الأمن القومي، ما يكفل حماية القضية من عوامل التسييس؛ ومن ثم لا ينبغي احتجازها داخل أطر دبلوماسية وفنية ضيقة، لا يمكنها التجاوب مع كافة محاور القضية. وفي هذا الشأن، لم يعد ممكناً الاكتفاء بأن نظل «نأمل في أن يتفهم الجانب الإثيوبي خطورة الموقف» حسب تصريحات الرئيس منصور للصحافة الكويتية مؤخراً، كذلك تأخر كثيراً ما صرح به وزير الخارجية نبيل فهمي من أن «إثيوبيا لا تتفاوض بجدية لحل أزمة سد النهضة، وتواصل تصعيد الأزمة من خلال الاستمرار في بناء السد»!، فيما يُعد تحصيل الحاصل تأكيد سيادته «أن مصر ستواجه أزمة حقيقية إذا استمرت إثيوبيا في المماطلة وفشلت المفاوضات في إيجاد حل لأزمة السد»!؛ وبالتالي تراجعت تصريحات «المسئولين» من ضرورة «إلغاء» المشروع برمته، إلي حد تصريح وزير الخارجية مؤخراً بأنه قد أبلغ وزير الخارجية الإثيوبي «بأهمية أن تراعي إدارة سد النهضة مصالح جميع الدول، مؤكداً أن مصر تتعرض لمؤامرات دولية لعرقلة حل أزمة السد»!، بينما تستمر المراوغة الإثيوبية جلية في تصريح وزير الخارجية الإثيوبي مؤخراً بأن حكومة بلاده «مُصرة على إجراء محادثات مع مصر بشأن موضوع سد النهضة، فضلاً عن إيجاد حل لقضية مياه نهر النيل يقوم على أساس تحقيق المنفعة المتبادلة»! وعلي ذلك لزم إعادة تحذير الوفد من أن إثيوبيا، وإن كانت هي مسرح العملية، إلا أنها ليست صاحبة القرار الفصل بشأن سد النهضة؛ ومن ثم فإن الأمر لا يخرج على كونه بمثابة بعث جديد لمخطط قديم لضرب الأمن القومي المصري، وجدت قوى الاستعمار الجديد في ثورتنا المجيدة المناخ الملائم لتنفيذه، لتجهض به الإرادة الشعبية الحرة الساعية باتجاه بناء دولة ديمقراطية حديثة، تدفع باتجاه استعادة مصر لموقعها المستحق، الذي يأتي بالقطع خصماً من مصالح القوى الاستعمارية في المنطقة. والأمر علي هذا النحو، لا يشير إلي قصور في فكر وأداء الخارجية المصرية، قدر ما يؤكد أن القضية أعمق كثيراً من أن تترك بعيداً عن الجهات المعنية بالأمن القومي، وهي بالقطع ستواجه جملة من التحديات والمهام في سبيل إنجاز مسئولياتها الوطنية علي نحو ما عهده فيها الشعب من كفاءة وقدرة، رغم ما يعتري المشهد الوطني من مناخ غير داعم بشكل أو بآخر. وربما في ذلك إشارة واضحة إلي مختلف أطراف المشهد الوطني، بغرض تغليب المصلحة الوطنية فوق كل الاعتبارات السياسية والفئوية، استناداً إلي ضرورة قبولنا للتحديات التي تواجهنا، إذا ما أردنا للثورة المصرية المجيدة خطوات واثقة تلاحق بها كافة طموحات الإرادة الشعبية الحرة. فليس من شك أن الفعاليات السياسية والمجتمعية المتعلقة بالانتخابات الرئاسية والبرلمانية، تفسح حيزاً واسعاً، وقدراً كبيراً من المغريات أمام المناورات والمزايدات السياسية، التي لا ينبغي أن تخرج على إطار مسئولياتنا الوطنية، لندرك جميعاً ما للمشهد الداخلي من تداعيات علي مجمل التحديات والمخاطر التي تحيط بالأمن القومي للوطن. «الوفد»