في ظل الحركة الدائبة والآراء المتناثرة المتناقضة وفي ظل الأمواج المتلاطمة تبقي الاجواء في وطننا متراوحة ما بين قضايا التطهير والتخلص من الفساد ومحاكمة رؤوس النظام البائد وتشتعل قضية الدستور أولا أم الانتخابات أولاً وما بين الائتلافات المتعددة للثورة يعلن البعض تخصيص جمعة 8/7 للمطالبة بالدستور أولاً وتتحرك بحماسة بالغة حملات التوقيع لها.. ويلمح اعضاء الاخوان المسلمين والتيار الديني السياسي إجمالاً لصيحات غضب وتلويح بالمواجهة ضد هؤلاء الذين يطالبون بالدستور أولاً في إيحاء مريب بمواجهة من ضد من ..!! وتعود بعض الائتلافات لتعلن أن جمعة 8/7 للفقراء أولاً وتتراجع عن دستور أولاً.. ولا ندري لماذا أعلنت المشاركة ولماذا تراجعت...!! وتشحن بعض الاحزاب المدنية حربا غير مفهومة علي تحالف لم يعلن ولن يتحقق بين الوفد والاخوان المسلمين علي خلفية مبادرة التحالف الوطني المفتوحة أمام كافة القوي السياسية.. وعلي صعيد آخر تتعالي صيحات مطالبة بإقصاء الاحزاب الكرتونية القديمة التي ساهمت في تجميل النظام البائد.. وبالطبع هناك عشرات الوقفات الاحتجاجية من موظفي هيئات مختلفة إلي تجار دواجن ومربيها إلي من يقيمون في الخلاء بغير سكن.. كل هذه الأجواء المحمومة تستدعي تحركاً واسعا علي المستوي الحزبي في كافة النقاط والدوائر المحلية ومواجهة إعلامية والتحاما مباشرا مع الناس لأننا في مصر.. مصر الوطن الكبير الذي يتجاوز سكانه الخمسة والثمانين مليوناً وقد تم احتباسهم عبر ستة عقود تمت فيها أكبر عمليات التشويه والتضليل حتي فقدت آلة التعليم اثرها وآلة الاعلام مصداقيتها وأصبحت الاشاعات والضجيج وسائل ناجحة لتداول الخبر والتحليل.. ومصر الوطن الكبير بتاريخه ونضاله يتم اختزاله في رؤي قاصرة متنوعة طبقا لثقافة من ستحدث.. فيهمل شوطا من تاريخ الوطن متعمداً أو متجاهلاً أو جاهلاً مما يكون له أسوأ الاثر في التفسير لما يحدث.. فثورة 25 يناير التي انطلقت مع احتلال شباب مصر وكافة أطياف الوطن السياسية لساحة ميدان التحرير في القاهرة وفي غيره من الساحات والميادين في محافظات مصر من الاسكندرية للمنصورة لأسيوط بالطبع في المقدمة السويس ومناهضتها لآلة القمع التاريخية «أمن الدولة» عبر أربعة ايام مجيدة من 25 إلي 28 يناير.. فثورة 25 يناير هي ثورة الشعب المصري كله وليست ثورة الشباب فحسب أطلق شرارتها شباب الوطن وهذا طبيعي وهم من يمثلون 65٪ من اجمالي السكان وانضم إليهم كافة طوائف الشعب الطامحة للحرية والعدالة والمضارين من العسف والظلم ونهب الثروات ليقلبوا النظام رأساً علي عقب ويسقطوا نظام مبارك الآثم.. ولكن الثورة لا تكون ثورة بانجاز وحيد هو خلع مبارك وأسرته وإنما تكون ثورة بترسيخها قيماً وحقوقاً تصبح متداولة وحقيقية علي أرض الواقع.. فثورة 25 يناير ثورة الحرية والكرامة أولاً والخبز والحقوق ثانيا من حقها أن ترسخ قيم الحرية وتداول السلطة وقبول الآخر وحقوق المواطنة وحقوق الانسان والاقتسام لكامل ثروة الوطن ومقاديره ومستقبله.. وهذا لن يكون إلا عبر ممارستنا وقدرتنا علي الحركة والتعبير وفرض الارادة الشعبية، فروح 25 يناير المجتمعة لكل الفصائل هي التي اسقطت مبارك ولكن روح التلويح والتلميح بالمواجهة هي التي تسقط 25 يناير.. وثورة 25 يناير هي النتاج الفاعل والاستمرار الطبيعي لتراكم حركات وثورات الشعب المصري منذ ثورة عرابي وثورة 19 وانتفاضتي 68 و 72 وثورة يناير 77 وهي حلقة متصلة في ثوب الاستقلال والحرية والاقتسام ينسجها الشعب المصري بشهدائه وتضحياته.. وأيضا فإن التأخير وعدم الحسم تجاه القيم السلبية التي أفرزتها العقود الاربعة أو الستة الماضية من اللامبالاة والتسيب والتسلق والتحول والإنتهازية وترك الحبل علي الغارب لجيش طويل من المنتفعين والمتربحين وللسوس الذي نخر في عظام الوطن لينخر ويستمر في افراز مؤامراته ليبقي ويظل.. ذلك هو الخطأ الجسيم والحصار الذي لابد من كسره وتحطيمه عبر اليات حركة الشعب كله من أجل ترسيخ قيم التطهير والشفافية والمحاسبة.. وبالطبع فإن الإعلان الدستوري الذي قدمه المجلس العسكري قد أتي علي الاستفتاء الذي أقره الشعب في 19/3 .. وكذا فإن الاستخدام السيئ لفكرة التصويت لصالح الدين أو ضده التي استخدمت إبان الاستفتاء وكان لها أسوأ الاثر لدي قطاع كبير من القوي المدنية المسيسة في مواجهة قوي الدين السياسي ولعلها قد أثارت الكثير من القلق لدي المهتمين والمتابعين للشأن المصري بسبب ذلك الاستقطاب الضخم الذي حدث لجمهور الناخبين والاحتقان والمواجهة المستفزة التي لا معني لها سوي إنكارنا لتاريخنا الوطني ولحمتنا الوطنية وأهدافنا جميعا نحو وطن كبير يضمنا ونحميه ونرتفع ونتفاخر به.. ولقد ضم الإعلان الدستوري المعلن 55 مادة إضافية إلي المواد المتسعة التي استفتي عليها الشعب ومن عجب ان قد تم تغيير نص المادة 60 بالإعلان عن نص المادة 189 بالإستفتاء.. ولعل حديث المستشار طارق البشري مهندس عملية التعديلات الدستورية لجريدة الشروق في 4/3/2011 قد أضاف غموضاً علي غموض في تفسير عملية الجمعية التأسيسية للدستور إذ قال: «الشعب والشروي» هما هيئات منتخبة حديثا وبعد الثورة.. وهما من يختار الجمعية التأسيسية من أعضائها ومن غيرهما.. كان أمامنا ثلاثة قروض إما أن يعينها رئيس الجمهورية وحده وبذلك يكون سلطنا قراراً فرديا واحداً وهذا وضع غير ديمقراطي.. أو اما أن تنتخب جمعية تأسيسية انتخاباً مباشراً من أفراد الشعب المصري وهذا أمر تعتريه نواقص.. المفوض من أن الجمعية التأسيسية لا تمثل الاتجاهات السياسية فحسب وذات الشعبية ولكن ان يتمثل فيها ذوو الخبرات الفنية والقانونية والسياسية والاقتصادية من علماء وذوي خبرة وتخصص فبقي الاحتمال الثالث وهو أن الهيئتين المنتخبتين حديثا هما من يعين الجمعية التأسيسية. وفي هذا الشرح مغالطات عدة، فالمنتخبون في المجلسين جاء بهم الشعب طبقا للتوجهات السياسية والشعبية وبالتالي هم أيضا يفتقدون عناصر الخبرة والتخصص فإذا كان هؤلاء هم المنوط بهم اختيار الجمعية التأسيسية فستتحكم بهم نفس المشاعر والتوجهات التي أتت بهم في اختيارهم فتخلو الجمعية التأسيسية من ذوي الخبرة والتخصص بل سيضاف إليها مزيد من التركيز علي الهوية السياسية والاجتماعية طبقا لهوي وميول النواب المنتخبين.. فضلاً عن تجاهل تجارب الدول الأخري في تشكيل الجمعية التأسيسية لوضع دستور جديد فنحن لن نصنع العجلة ومن هنا جاء العوار يشوب شكل الجمعية التأسيسية ولعل تلك القضية قد فرضت نفسها علي ساحة السجال السياسي وتحولت طبقا لخناقة الاستفتاء إلي موضوع اخر هو ان الاستفتاء قد أصبح سؤالاً عن الهوية الدينية للناخبين وإشاعة خيالات عن استقرار وأمن حادثين في حالة الاجابة بنعم وقد ثبت عدم صدق تلك الخيالات ولم يزل بيننا وبين الأمن واستقرار الأحوال بون شاسع.. وعلي هذا فالدستور أولاً هو فعليا لم يزل موضوعاً معلقا للنقاش والحوار حوله لم يغلق ولن يغلق ترهيباً بل هو حق ابناء هذا الوطن وهم يؤسسون لدولتهم الديمقراطية المدنية الحرة العادلة.. وفي هذا السياق كان هناك حوار حول وثيقة التحالف الوطني والتي أقرت مبادئ يتفق الموقعون عليها في إقامة دولة المواطنة والقانون جاء بها أن المواطنة اساس المجتمع والتزام بعدم التفرقة والتمييز بين المواطنين بسبب الدين والعرق والجنس وأكد علي حق تداول السلطة عبر الاقتراع العام الحر وحرية تشكيل الاحزاب بالاخطار وألا تكون علي أساس ديني أو عسكري أو فئوي وحرية تكوين النقابات واحترام الحقوق والحريات السياسية والدينية والثقافية للمواطنين.. إلخ مما ورد بالمبادرة وهي خطوة علي طريق توافق القوي السياسية والاساسية في هذا الوطن مما يؤمن عدم الانزلاق إلي مخاطر الاحتقان والاستقطاب ولعله في التجربة التركية المتكررة في مواجهة العسكر دروس كثيرة لمن يرغبون في إقامة وطن ديمقراطي حر عادل فعندما اختفي حكماء أمثال سليمان ديميريل وتورجوت وزال صعد نجم الدين اربكيان فحاصرته العسكر بتاريا التركية فكان النموذج المعدل الممثل في رجب اردوغان وفي المقابل اختفت القوي السياسية المدنية الاخري وقادتها.. أمثال مسعود يلمظ الذين لم يتعلموا حكمة وفهم طبيعة الشعب والوطن في تركيا.. نحن في تجربة طويلة ومشوار شاق للديمقراطية والعدالة والمواطنة نشقه بارادتنا وإصرارنا ونضالنا الجاد نحو ما نؤمن به. *عضو الهيئة العليا