«لا حق لحى إن ضاعت فى الأرض حقوق الأموات.. لاحق لميت أن يهتك عرض الكلمات.. وإذا كان عذاب الموتى أصبح سلعة أو أحجية أو أيقونة أو إعلانا أو نيشانا فعلى العصر اللعنة.. والطوفان قريب»، أبيات شعرية لشاعر العقل نجيب سرور أتذكرها ونحن على مشارف ثورة ثانية أشد قوة وضراوة، من سابقتها ثورة سيصطف فيها الجياع فى الصفوف الأمامية، بعد ان ارتسم مشهد الفقر على وجوه كل المصريين، وأصبحت الحياة لا قيمة لها بعد أن ضاعت وتبخرت، آمالهم وأحلامهم فى العيش والحرية والعدالة الاجتماعية. الطوفان القادم قريب... سيأخذ الأخضر واليابس فى طريقه.. الكل فى مركب واحدة، لا فرق بين راكب الدرجة الأولى والثالثة، إذا غرقت المركب، فالكل موتى وما قيمة الحياة إذا استشرى فيها الجوع والفقر والظلم والفساد، هذا ما أكده كافة المحللين السياسيين والمراقبين لتصاعد وتيرة الأحداث فى المشهد السياسى. فقد مضى عام على تولى مرسى الحكم فى 30 يونية الماضى، و ها هو العام الثانى يحل علينا والبلد يغرق فى الفوضى بل هناك نذر حرب أهلية بين التيارات الإسلامية بعضها بعضاً خاصة بعد حادث مقتل الشيعة فى أبوالنمرس بسبب الخطاب الدينى الجاهل والمؤجج للفتن، فهم يطلقون لجام الكلمات دون أن يفكروا للحظة كيف ستشعل تلك الكلمات النار فى الوطن. مرسى الذى رفض فور توليه الرئاسة الجلوس فى القصر الرئاسى، لإيهام الشعب بزهده فى الحياة السياسية بكل بريقها، يقبع الآن فى القصر، يرفض التخلى عن الكرسى نزولا علي إرادة الشعب التى تجلت فى أكثر من 15 مليون توقيع لسحب الثقة منه فى غضون أيام قليلة بل الأكثر من ذلك فقد رسخت سياسة حكومته العقيمة لأنواع أخرى من الفقر، وهو الافتقار المرعب لكافة أنواع الخدمات وبكافة صورها، فلا بنزين ولا سولار، ومن ثم لا مواصلات، لا كهرباء، ولا مياه.. مرسى الذى اختاره أغلب الشعب اعتقادا منهم أنه سيتخذ من وسطية الإسلام منهجا، ومن إدارة عمرو بن الخطاب للبلاد سبيلا، خيب ظن الجميع وأطاح بأحلامهم، وأعلن تمسكه بالكرسى حتى النفس الأخير فى خطابه الأخير الذى استمر قرابة 3 ساعات. يحضرنى هنا قصة سيدنا عمر بن الخطاب عندما عين عمرو بن العاص واليا على مصر بعد فتحها سأله: لو جاءك سارق فماذا تفعل به؟ وكان الجواب سريعا من عمرو بن العاص، حيث قال: أقطع يده، ثم بادره بن الخطاب قائلا ولو جاءني فقير من مصر لقطعت يدك... فما مصير مرسى إذن بعد ان أصبح الجميع فقراااااااااااء. وبحسب دراسة أعدها المركز المصرى للحقوق الاقتصادية والاجتماعية، فإن الفقراء الذين انتخبوا مرسى عرفانا بجميل «زجاجة الزيت وكيس السكر، هم أيضا من سيسقطونه، وسيتقدمون الصفوف الأولى للثوار غير مبالين بحياتهم غير الآدمية، لقد خسر الرئيس قطاعا هاما من المجتمع لو راهن عليه وانحاز إليه، لدخل التاريخ من أوسع أبوابه مثلما فعل جمال عبد الناصر، والذى اصطف خلفه الفقراء وخرجوا إلى الشوارع يهتفون بحياته رغم الهزيمة الساحقة التى منيت بها البلاد إبانها، وأكد المركز فى دراسته ان الكلمة النهائية في مظاهرات 30 يونية المقبلة، للفقراء. فالفقراء... لا تحركهم نخبة الساسة والمثقفين، ولا صفحات الفيس بوك المليئة بعبارات السخرية وبعبارات محرضة، وإنما يحركهم بطونهم الجوعى وأجسادهم العليلة، وعيون أبنائهم التى تنم عن حرمان قاتل وفقر مدقع. ووفقا لآخر تقرير لبنك الطعام المصري فإن من هم تحت خط الفقر في مصر42٪ من السكان، فضلا على انعدام الأمن الغذائى وسوء التغذية فى مصر والعدد فى تزايد، ووصف بنك الطعام المصرى الوضع فى مصر بالمأساوى ،محذرا من الدخول فى ثورة جياع. عن يوم 30 يونية يقول عم جمال محمد، عجلاتى: «أنا نازل من يوم 28 يونية ومش هرجع البيت الا لما ارجع بلدى من اللى خطفوا ثورتها وركبوها»، مضيفا: «أنا عندى ولدين، بصرف كل اللى حلتى على تعليمهم، ولو اتخرجوا ومرسى لسه فى الحكم هيكون مصيرهم الجلوس فى البيت. واسترسل عم جمال قائلاً: «أنا مرتبى 800 جنيه بدفع منهم إيجار بس400 جنيه، والباقى مبيكفناش عيش حاف، إحنا خلاص فاض بينا، والفقر خلانا مش عايزين نعيش، كرهنا الحياة وبقينا نتمنى الموت فى كل لحظة، بس حتى الموت عز علينا. وعبر جمال عن أسفه الشديد لأنه اختار مرسى رئيسا، وان الأولى به كان هو إبطال صوته، حتى لا يظل يشعر بالندم إلى آخر العمر. وفى ذروة غضب عم جمال قطع احد المارة حديثه قائلا: «أنا هنزل اموت يوم 30 فداء لبلدى، لازم اخلصها من الإخوان، واللى عايز يقول على فلول، يبقى شرف لى إنى فل». من بعيد خطف صوت «أم احمد» المليء بالشجن، سمعى، إرهاق وضيق وحزن، وغيرها من المشاعر ارتسمت على وجه السيدة الأربعينية، وهى واقفه فى السوق تلهث وراء الزبائن من اجل ان تكسب ملاليم من بيعها العيش. لم تنتظر «أم أحمد» أن أكمل سؤالى عن رأيها فى أداء الرئيس، وبمجرد ذكرى اسم مرسى، صرخت قائلة «يغور» إحنا كرهنا البلد وكرهنا نفسنا، الواحد فاضل يبيع جسمه حتة حتة عشان العيال يا كلوا، عايزين رئيس يهودى بس يحكم بالعدل، عبارة صرخت بها سيدة مسنة تفترش الشارع وتضع أماهها علب مناديل تبيعها للمارة أو بمعنى أدق تتسول منهم، وأكملت السيدة حديثها دون ان تفصح عن اسمها أو تسمح بالتقاط صورة لها معللة ذلك بقولها: «أنتوا عايزين تصورونى وتخدوا اسمى عشان الصبح ألاقى البوليس مدخلنى السجن، ماهما كدا مبيقدروش غير على الغلابة، إنما الحرامية الكبار سايبنهم يعملوا اللى عايزنه فى البلد ويبيعوا ويشتروا فينا. وقبل ان أنهى جملتى الاعتراضية «مفكرتيش تشتغلى حاجة ليه» قاطعتنى قائلة: «أشتغل إيه بس هما الشباب والبنات لاقيين شغل لما انا ألاقى وبعدين انا ماليش أى مصدر دخل، وكان عندى أمل ان الناس بتوع ربنا دول لما يمسكوا البلد يقضوا على الفقر، صحيح أنا منتخبش، بس قعدت ادعى لهم يفوزوا ، عشان الخير يعم، بس ازدادنا فقر ومرض». اعترض طريقى فتحى راضى، سائق ميكروباص، وصاح بصوت جهورى»: يرضيكم وقف الحال اللى إحنا فيه، من يومين وأنا مشتغلتش وراكن العربية فى الشارع مش لاقى بنزين، طب أأكل العيال منين، أنا عندى 3 أطفال الكبير فيهم عنده 6 سنين ومحتاجين غذا، وأنا راجل بعتمد على رزق يوم بيوم، هسرق عشان اكل العيال ، ولا أسيبهم يموتوا، والآخر الرئيس مرسى طالع يهزر ويقول الأزمة دى نفسية هو مبينزلش الشارع ولا إيه. سألت فتحى الذى تمتلئ عيناه بدموع متحجرة، رأيك إيه مرسى يكمل فترته الرئاسية ولا يتخلع زى اللى قبله؟، فقاطعنى قائلا: «دا لو قعد سنة كمان مش 4 سنين الناس هتاكل بعضها، لازم الكل ينزل يوم 30 يونية عشان نقفل صفحة مرسى والإخوان دول خالص». فى آخر طابور العيش جلست متكئة على عصا من جذع شجرة، ترمق الطابور بعينيها، فتتيقن انه ما زال أمامها ساعات وساعات قبل ان يحل دورها، من الصباح الباكر وهى تقف فى هذا الطابور اللعين لتقتنص بضعة أرغفة تعود بها إلى ابنائها، بدأت حديثها معى بعبارة «على فكرة أنا مش كبيرة ولا حاجة أنا عندى 50 سنة لسه بس الهم والشقا اللى مخلينى عندى ييجى 80 سنة». واستطردت أم هاجر قائلة: «أنا عندى 3 بنات طلعتهم من التعليم عشان مش قادرة على مصاريفهم وكمان خايفه عليهم من السرقة والاغتصاب والحوادث اللى بنسمع عنها دى، قلت يقعدوا فى البيت يشتغلوا فى تجميع مشابك الغسيل ويجيبوا مصاريفهم وبسؤالها عن رأيها فى أداء مرسى قالت: «أقول إيه بس الواحد قرب يشحت، أنا كل ما أفكر هاجهز البنات الثلاثة دول منين، أقعد أدعى على مرسى عشان مش فاهم حاجة وغرقنا وهيغرق البلد».