قبل الغروب ، كان يحلو لى ان أهرول الى المكان، مسافة ليست بالقصيرة اقطعها من منزلى فى تلك المدينة «فلاردنجن»، أتجاوز البنايات ثم غابة الأشجار التى لا يفارقها ابدا لونها الأخضر، لا يمنعنى برد ولا المطر الغزير الذى يفاجئنى فى كثير من الأوقات، اجلس فى مكان اعتبرته خاصاً بى، فوق المنحدر الصخرى الذى بنوه بدقة وبراعة ليكون كالسياج الحامى لأحد شرايين الحياة، أغوص بعيني فى الماء الأزرق الصافى، حتى يخيل لى انى لامست القاع، يقطع غوص عينى صوت باخرة هائلة البنيان، تشق الماء الهادئ فى ثقة وجبروت، وتتبعها أخرى وثالثة، لا خلل ولا زحام ولا ارتباك، كل شىء يسير بنظام ودقة كالساعة عبر هذا الفرع من نهر الماس، أحد شرايين الحياة بهولندا التى يمر بها ايضا نهر الشيلدت وافرع من نهر الراين لتكون شرايين الحياة بها و سر البقاء والرخاء لشعبها، أتطلع الى شاطئ النهر مشدوهة، لا قصر ولا أى بناء يشق ضفة النهر ولا مشتل يسرق جزءا من حافته، ولا مصنع يسرب نفاياته فى مياهه، ولا نساء يغسلن الأوانى، ولا رجال «يغسلون» ماشيتهم، ولا أطفال «يستحمون» بين أمواجه، ولا جزر نابتة فى قلبه اتسعت رقعتها بفعل «رجل أعمال فهلوى دفع المعلوم»، تقفز الاخرى.. حبيبتى من ذاكرتى لتزاحم المشهد بنيلها، فتتصارع الأضداد بين ما أرى تلك اللحظة، وبين ما يحدث فى نيلنا الذى اختنقت ضفتيه وكاد يختفى تحت الابراج والقصور التى ردمت جوانبه وتوسعت فوق جزره، بنايات ومشروعات يقيمها الاثرياء المنتفعون طمعا فى حياة أكثر ثراء ورفاهية وهم لا يعملون أو يعلمون ويتجاهلون بانهم بهذه القصور والبنايات يقتلون شريان الحياة فى مصر. تجرم قوانين هولندا البناء على ضفاف النهر ، فتبتعد البنايات عن الدلتا بضعة كيلو مترات، ومحظور اقامة اى مشروعات استثمارية على حساب ماء النهر حتى لو استدر عليهم ذهبا ،اقصى ما يمكن السماح به هو وجود قوارب او عوامات على اطراف البحيرات الصغيرة المتفرعة، بشرط عدم المساس بمياة النهر، وغالبا ما تكون مخصصة للصيادين والبحارين، أو فى اغراض السياحة، أما نقاء مياه النهر، فحدث ولا حرج، فلا قاذورات عائمة فوق الماء او حتى فى القاع، عمليات تنظيف النهر تتم بصورة دائمة حرصا على مدى عمقه وبقاء منسوب المياه مستقرا للوقاية من اى فيضان ، و تطهيره نفايات السفن المحتملة تتم على قدم وساق، ومنذ عام 58 اقامت هولندا مشروع الدلتا ليشمل سلسلة من السدود الضخمة تربط الجزر وتمنع الفيضان من إغراق المنطقة ، كما اقامت بوابات ضخمة على بحر الشمال، لتسمح للمياه المالحة والمد الطبيعي بدخول الدلتا المحمية بصورة محسوبة، ممن أدى للحفاظ على البيئة الطبيعية واقتصاديات صيد الأسماك في الدلتا بجانب الحفاظ على الثروة الزراعية. وأصبح صراع الهولنديين من اجل الحفاظ على شرايين الأنهار الثلاثة دون تهديد أو نقصان، هو سر تقدمهم ورفاهيتهم رغم عدم تدفق الأنهار فيها بقوة كافية نظرا لاستواء الأرض، لكنها استفادت منها فى النقل المائى الرخيص، وفى توسيع الرقعة الزراعية بالدلتا، كما اصبح صراعهم مع مياه بحر الشمال لاستقطاع اراضيهم منه وبناء بلدهم هو سر وجودهم، فهولندا تعرف باسم الأراضى الواطئة، لأن أراضيها تحت منسوب مياه البحر، وأى خلل فى منظومتهم الحمائية من فيضان البحر ستجعلهم يغرقون مع أراضيهم فى دقائق معدودة، حتى ان هناك مثلا شائعا يقال «الله خلق البحر والهولنديون خلقوا بلدهم من البحر»، وهكذا أصبحت هولندا رغم صغر حجم مساحتها وسكانها الذين لم يتجاوزا 18 مليونا، واحدة من أكبر عشر دول في العالم من حيث اقتصادها وواحدة من أكبر ثلاث دول فى الإنتاج الزراعي، كما تشكل حلقة وصل بين العالم وغرب أوروبا عبر موانيها البحرية. انه نموذج عايشته لشعب يقدر نعمة الحياة التى وهبها الله لهم.. مياه النهر والبحر، فحافظوا عليها واستفادوا منها بكل الطرق، يعرف كل هولندى قيمة نقطة المياه، ويعتبرها اغلى من أى شىء، يلقن الاطفال فى الرياض قيمة الحفاظ على ثروات بلدهم وعلى ممتلكاتها، بدءا بالمياه، مرورا بالمرافق العامة وصولا الى احترام اشارة المرور التى يدرب الاطفال عمليا على احترامها عبر جولات تقوم بها المدارس فى الشوارع لتدريبهم، فيما توارثت حكوماتنا اهمال نهر النيل واسقطت الحفاظ على نظافته، فتقلصت المياه بين ضفتيه بفعل البنايات الشاهقة والقصور، وانتشرت الجزر بقلبه، ناهيك عن كل اسباب التلوث التى نتفنن فى تغذية مياهه بها لتقتل كل احيائه البحرية، وتوارثت حكوماتنا منذ عهد مبارك وحتى الان اهمال العلاقات مع دول مصب النيل، حتى نجحت اسرائيل فى أحكام المخطط مع اثيوبيا لتحرم مصر جزءا من حصتها فى النيل بإقامة سد النهضة، ولا يعرف احد ما دار فى كواليس اثيوبيا بين الرئيس الهمام وبين نظيره الاثيوبى حتى تكيد لنا الأخيرة وتعجل بمشروع السد، الذى يكفى القول أنه بجانب حرمانه مصر جزءا من حصتها المائية، لن يصمد اكثر من 25 عاما، وحال انهياره ستختفى الخرطوم واسوان وينهار السد العالى. أطالب كل مسئول ومواطن بالتحرك لانقاذ النيل من الداخل، بإزالة كل ما تم بناؤه على ضفتيه، بإنقاذه من التلوث والتوسع فى جزره، أطالب الحكومة ورجالات الأعمال الوطنيين بإنقاذ النيل من المصب، من خطط اسرائيل الإثيوبية، وذلك بتقديم مشروعات بديلة لاثيوبيا لتوليد الكهرباء، تلك التى تزعم انها الدافع وراء اقامة السد، مشروعات لتوليد الكهرباء عبر الطاقة الشمسية، النووية، أو حتى بإقامة طواحين الهواء، بدلا أن نجد انفسنا نحارب طواحين الهواء بعد أن جفت مياه النيل، وحلت قصور الموت فوق طميه لتختفى شرايين الحياة.