تحتاج السياسة الناجحة والمؤسسات السياسية التي ترغب في أداء دورها بدرجة أكبر من الفاعلية والقدرة إلي التعرف علي اتجاهات الرأي العام وقياس هذه الاتجاهات بالطرق والوسائل العلمية الصحيحة وبعيدا عن الانحياز أو التأثر بأفكار وتوقعات مسبقة، ويضمن ذلك أن تكون السياسات المتخذه هي الأكثر تعبيرا عن المجتمع، كما يضمن ذلك أيضاً أن تكون القرارات هي الأكثر تعبيراً عن الواقع السياسي والاجتماعي والاقتصادي. وقد نظم مركز بحوث الرأي العام بكلية الإعلام بجامعة القاهرة منذ فترة قريبة ندوة بعنوان «اتجاهات الرأي العام المصري نحو الأوضاع السياسية الراهنة» ويعبر ذلك عن الارتباط الوثيق بين الجامعة والمراكز البحثيةة من جانب وبين قضايا المجتمع من جانب آخر ويساعد علي أداء الجامعة ومراكزها البحثية للدور التنويري المفترض وخصوصاً أن الجامعة هي المكان الذي تتحقق فيه حرية وديمقراطية الرأي بأكبر درجة ممكنة، وقد أسفرت الدراسة الاستطلاعية لاتجاهات الرأي العام المصري نحو الأوضاع السياسية الراهنة عن النتائج الهامة التالية: - النتيجة الأولي: هي اعتماد أغلب المواطنين علي التليفزيون في الدرجة الأولي وخصوصا القنوات الفضائية كوسيلة للحصول علي المعلومات السياسية وهي نتيجة متوقعة، فالمواطن اعتاد علي مشاهدة البرامج السياسية يومياً والاستماع إلي الساسة والخبراء والمتخصصين، ولعل الجديد في هذا الشأن من وجهة نظري هو الاختلاط بين الجانب الإخباري والجانب الترفيهي، حيث إن هذه البرامج يكون معظمها في الفترة المسائية وهي تؤدي بالتالي دوراً مزدوجاً، فهي مصدر للحصول علي المعلومات السياسية من جانب، كما يوجد فيها أيضاً البعد الترفيهي الذي يشغل وقت المشاهد من جانب آخر. - النتيجة الثانية: هي وجود نظرة متشائمة من جانب مفردات العينة تجاه تحقيق أهداف الثورة، حيث يري 31% أن الثورة حققت أهدافها بدرجة ضعيفة، بينما ذهب قرابة 26% من العينة إلي أنها لم تحقق شيء، أي أن 57% من العينة لديهم نظرة سلبية تجاه تحقيق أهداف الثورة، ويمكن تفسير ذلك من وجهة نظري بثورة التوقعات المتزايدة نتيجة للثورة حيث إن المواطن كان يتصور إمكانية تحقيق أهداف الثورة وتحسين الأوضاع في فترة زمنية قصيرة وهو ما لم يحدث من الناحية الواقعية نتيجة لعدم الاستقرار السياسي والصراع المؤسسي وعدم تمثيل شباب الثورة بشكل مناسب في مؤسسات الحكم، بالإضافة إلي الاستقطاب السياسي، والتراجع علي المستوي الاقتصادي وذلك علي نحو ما تثبته المؤشرات الاقتصادية المختلفة مثل البطالة والتضخم وضعف الاستثمار وتراجع السياحة وتزايد الدين العام، ويعكس ذلك كله أن الطموحات والتوقعات كانت أكبر من الإنجازات، مما أدي إلي وجود درجة من الإحباط لدي المواطن العادي. - النتيجة الثالثة: وهي تتعلق بتقييم الرأي العام للأوضاع السياسية الحالية في مصر، حيث اتسمت نظرة الأغلبية العظمي من العينة (قرابة 85%) من المبحوثين بالسلبية في نظرتهم إلي الأوضاع السياسية الحالية في مصر، ويمكن تفسير هذه النظرة السلبية بظروف الصراع علي السلطة بين الاتجاهات السياسية المختلفة، ومحاولة إقصاء الآخر وما يترتب علي ذلك من استقطاب سياسي فضلاً عن الصدامات ذات الخلفية الطائفية، وربما يكون العلاج الناجح لهذه النظرة السلبية في اعتقادنا هو أن تسود قيم التسامح والبعد عن التعصب والاتفاق علي آليات لحل الصراعات السياسية داخل المؤسسات حتي لا تمتد إلي الشارع وتمثل تهديداً للاستقرار السياسي. - النتيجة الرابعة: تتمثل في اتجاهات الرأي العام نحو الانقسامات السياسية الحالية في مصر، حيث تتعدد أسباب الانقسامات الحالية في مصر، حيث توجد عوامل إقليمية وعوامل دولية وعوامل داخلية، ويقصد بالعوامل الإقليمية والدولية أن هناك بعض القوي والأطراف الدولية التي تحاول إعاقة عملية التحول الديمقراطي في مصر واكتمال نجاح الثورة وذلك لإضعاف الدور المصري علي مستوي المنطقة والإقليم وعدم الرغبة في استعادة مصر لتأثيرها أو استقلالية قرارها وموقفها السياسي، مع ملاحظة أن المتغيرات الإقليمية والدولية لن يكون لها تأثيرها الفعال إلا من خلال الانقسامات الداخلية وهذه هي الخطورة، وهذا ما يجب التنبه له من جانب مختلف القوي والأطراف السياسية في الداخل، التي تنقسم حول أمور عديدة مثل تغيير الحكومة وموضوع النائب العام، والمواد الخلافية في الدستور، والقوانين التي يصدرها مجلس الشوري وغيرها من القضايا، وقد جاءت نتائج الدراسة مؤكدة لهذه الأسباب وإن اختلفت الأهمية النسبية للعوامل المختلفة. -النتيجة الخامسة: تتعلق باتجاهات الرأي العام نحو ما ينبغي القيام به لإخراج مصر من حالة الإنقسام الحالية، وقد عبرت الدراسة عن اتجاهات تتسم بالنضج والعملية لدي المبحوثين، حيث تم التأكيد علي الأخذ بالآليات المتعلقة بالإصلاح الاقتصادي والإداري وضرورة تبني مشروعات قومية يلتف حولها المصريون جميعاً والابتعاد عن الإقصاء، وعدم التمكين لطرف أو فريق سياسي واحد، والاستفادة من أبناء الوطن جميعاً في إدارة مؤسسات الدولة والاعتماد علي الكفاءات، بالإضافة إلي تطوير منظومة الإعلام دون التأثير علي الحريات الإعلامية وإجراء التعديلات اللازمة علي المواد الخلافية في الدستور. وتحتاج مصر إلي مزيد من الاهتمام بالدراسات الموضوعية للرأي العام وتوجهاته وإلي مزيد من المراكز البحثية المتخصصة في هذا الشأن وإلي تعاون وثيق بين مراكز البحوث السياسية والإعلامية والإجتماعية والجامعة لتقديم الدراسات الجادة والموضوعية المرتبطة بالأوضاع الراهنة في مصر علي مختلف مستوياتها الداخلية والخارجية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية لرسم السياسات والاستراتيجيات المحققة لمصلحة الوطن. - أستاذ العلوم السياسية