حينما يمر الوطن بلحظات فارقة في عمره يظهر دائما دور الفن الجاد والهادف كاتجاه مواز لجهود رجال السياسة والإعلام، بل يتجاوزه تأثيرا في بعض الأحيان، وفي ظل الأحداث المتلاحقة التي تشهدها مصر خلال الشهور الماضية تبرز جهود بعض صناع الفن ممن يحملون هما ورؤية لإعادة بناء الوطن، والمخرج المسرحي انتصار عبدالفتاح من المخرجين القلائل في المسرح المصري الذي يمكن لنا أن نطلق عليه »صاحب مشروع« فلا يمكن أن نصفه كمخرج أو موسيقي فقط لأنه بشكل عام صاحب مشروع مكتمل الملامح تستطيع أن تلمسه في كل أعماله خلال العشرين عاما الماضية مهما اختلفت الأطر الفنية أو الأنواع. الشخصية المصرية وتفردها عنصر مهم وأساسي يشغل انتصار عبدالفتاح في الكثير من أعماله الفنية سواء في المسرح أو في العروض الفنية والاحتفالية والتي تحمل دائما في مضمونها رسائل تؤكد معني واحدا وهو تفرد الشخصية المصرية. يطلق انتصار عبدالفتاح رسائله من قلب القاهرة التاريخية وبالتحديد من مركز قبة الغوري للإبداع والتراث بحي الحسين والذي أصبح مقصدا للكثيرين من عشاق الفن، ومؤخرا وبعد نجاح العروض التي يقدمها بالمركز رأي انتصار تطوير بعض المشروعات التي قدمها من قبل لتكون رسائل للعالم كله. حوار الطبول من أجل السلام في عام 1990 أسس انتصار عبدالفتاح فرقة »الطبول النوبية« للحفاظ علي التراث الغنائي والإيقاعي الذي ينبع من نهر النيل، ومنذ عام 1991 أدرك انتصار ضرورة البدء من النوبة باعتبارها بوابة أفريقيا وأخذ الملف الافريقي جانبا كبيرا من اهتمام الفرقة التي سعت لإقامة حوار الطبول من أجل السلام مع فرق مختلفة من 16 دولة أفريقيا لتقديم حوار موسيقي وللتأكيد علي التواصل الإنساني بين شعوب أفريقية فسافرت الفرقة الي رواندا وأثيوبيا وكوت ديفوار وكينيا وزامبيا وجنوب أفريقيا والكونغو والجزائر والكاميرون. تضرب فرقة الطبول النوبية مثالا علي الدور الذي يقوم به الفن لإصلاح ما تفسده السياسة، فرحلاتها لدول أفريقيا ساهمت في خلق التواصل بين الكثير من الدول من بينها زامبيا التي حرص رئيسها علي وجود الفرقة في أكثر من مناسبة وطلب تواجدها علي أول طائرة مصرية تصل لزامبيا عقب افتتاح خط طيران مشترك كما لاقت الفرقة اهتمام واعجاب 140 محافظا من 40 دولة افريقية شاركوا في مؤتمر المدن المتحدة والحكومات المحلية الأفريقية VCIGA الذي عقد في القاهرة وطالبوا الفرقة بتقديم عروضها في قافلة فنية تجوب دول أفريقيا كلها للتحاور مع فرقها وفنونها المختلفة. يسعي انتصار عبدالفتاح لاستمرار »حوار الطبول من أجل السلام« وتطويره بشكل يسمح باستضافة العديد من الفرق الافريقية في حوار مشترك باحتفالية كبري تقام في سفح الاهرامات أو في متحف النوبة باعتبارها رسالة للشعوب الافريقية تحمل في مضمونها تأكيدا علي التواصل والاهتمام والمصير المشترك ولقد تقدم بالفعل بالمشروع للسفيرة مني عمر مساعد وزير الخارجية للشئون الافريقية ونرجو أنيجد المشروع اهتماما يوازي أهميته. رسالة سلام والقداس الصوفي وفي عام 2008 أسس انتصار عبدالفتاح فرقة »رسالة سلام« التي تضم أربع فرق هي »سماع للإنشاد الصوفي«، »الترانيم القبطية«، »اندونيسيا للإنشاد«، »الترانيم الكنائسية أكابيلا« التي قدمت عروضها الناجحة في قبة الغوري علي مدار ثلاث سنوات أسفرت عن »مهرجان سماع للإنشاد والموسيقي الصوفية« الذي قدم ثلاث دورات بمشاركة فرق انشاد وموسيقي من أكثر من عشر دول مختلفة. عروض »رسالة سلام« حملت في معناها تأكيدا علي عمق وتفرد الشخصية المصرية ورصد التسامح والتواصل بين أبناء الوطن وأيضا المحبة التي هي جوهر أساسي للأديان كلها. في 2011 وعقب ثورة 25 يناير وفي ظل أحداث ومتغيرات كثيرة تعيشها البلاد يتعاظم دور رسالة سلام« ويصبح الواقع الحالي في حاجة اليه بعد أن قام انتصار عبدالفتاح بتطوير الفكرة لتصبح »قداس صوفي عالمي« تحت سفح الأهرامات يشارك فيه 120 عازفا يمثلون الفرق الأربع السالف ذكرها مع الترانيم البيزنطية من اليونان، والأجواء الأندلسية من أسبانيا وكذلك انضمام أمريكا وفرنسا وإيطاليا وبلدان من أفريقيا وآسيا تحتضنهم القاهرة في قلب الأهرامات للتأكيد علي المحبة والتسامح والتواصل الإنساني بين الشعوب وكذلك تفاعل الثقافات والتراث الإنساني وأيضا للتعرف علي فنون وحضارات الشعوب المختلفة وهنا تكون الرسالة مزدوجة تستفيد منه البلاد في اعادة الترويج السياحي بهذا الحدث الذي قد يوازي في أهميته »أوبرا عايدة« أويتجاوزها وفي نفس الوقت هو رسالة للعالم يسعي انتصار عبدالفتاح لعرضها في الفاتيكان بايطاليا ونوتردام بفرنسا وغيرهما. وعلي الرغم من إشادة المخرج انتصار عبدالفتاح بجهود وزارة الثقافة في احتضان المشروعين ورعايتهما من خلال صندوق التنمية الثقافية والعلاقات الثقافية الخارجية، إلا أن هذه الجهود وحدها لا تكفي بل ينبغي اتساع مظلة الاهتمام والرعاية من خلال جهود وزارتي السياحة والخارجية وكذلك رجال الأعمال حتي يخرج الأمر في النهاية بالصورة اللائقة بتاريخ مصر وحاضرها.