كنت ومازلت مغرماً بالموسيقار محمد عبدالوهاب، والشيخ محمد رفعت في ترتيله الحنون لآيات القرآن الكريم والذي أفتتح به باكورة يومي من خلال إذاعة القرآن الكريم كل صباح. وعندما يأتي المساء، ونجوم الليل تُنثر، كما يقول محمد عبدالوهاب، فإني أتجه إلي شرفة البيت مع ريحانة الدكتورة مستمعاً لمعظم أغانيه التي تعايشت معها صبياً وشاباً ورجلاً ثم كهلاً بعد السبعين.. ولكل أغنية من أغانيه ذكريات عطرة بطول وعرض العمر. وكان لعبدالوهاب ولع خاص بالورد الذي يُناجيه بصوته الجميل.. (يا ورد مين يشتريك.. وللحبيب يهديك.. يهدي إليه الأمل والهنا والقُبَلْ). ويا فرحة الحبيب بوردة المحب.. أعطيتها له عام 1958 في جلسة علي شاطئ النيل بمدينة المنصورة الجميلة.. فتلقفتها واحتفظت بها بين صفحات كراسة ظلت معها حتي وفاتها بعد خمسين عاماً.. وجدوها بين موروثاتها الحبيبة الأثيرة إلي قلبها. وكانت مُحبة الورد رفيقة عمر لا أفارقها حتي اتفقت مع بائع الورد في الستينيات على أن يرسل إلي بيتي صُحبة ورد كل أسبوع براتب شهري قدره جنيه واحد.. وكان الجنيه المصري في ذلك الوقت محترماً جداً فهو يكفي لشراء أكثر من كيلو لحمة تساوي بأسعار اليوم أكثر من مائة جنيه.. وكان للورد عندنا قيمة من قيمة الذهب.. نتلقاه علي الباب كل أسبوع ونضعه في فازة يفوح منها عطره حتي صاحبناه خلال رحلاتنا للخارج. ففي عام 1968 نزلت زائراً علي جامعة ستراسبورج علي الحدود الفرنسية الألمانية وكانت لأهالي المدينة عادة جميلة في الترحيب بزوارها.. إذ يتلقون أسماءهم من الجامعة.. ويتولى كل بيت دعوة الزائر علي العشاء مع رب الأسرة وزوجته وأولاده. وعندما تلقيت الدعوة من أستاذ محترم جداً في كلية الطب سألت الفرنسيين.. ماذا أحمل معي هدية لزوجته الفاضلة.. قالوا.. ورداً.. وكانت بائعات الورد ينتشرن في شوارع ستراسبورج الجميلة.. فاشتريت صُحبة روز وقدمتها للسيدة الفاضلة التي فتحت لنا الباب.. فتلقفتها بالقبلات كأحلي هدية.. وأمضينا مع أسرتها أمسية جميلة زادتها جمالاً بإحياء ذكرياتنا بوطننا.. إذ أدارت أسطوانة بأنشودة الفنانة فيروز وهي تغرد وتشدو مع موسيقي حماسية بالقدس عاصمة فلسطين. وكانت لنا مع تلك الأنشودة الجميلة ذكريات وطنية وقومية هائلة عندما كنا نحتفل في جامعة المنصورة كل عام بيوم الأرض في 30 مارس ويوم التضامن مع شعب فلسطين في 29 نوفمبر من كل عام، حسب نداء الجمعية العامة للأمم المتحدة.. وكان طلاب الجامعة يحتشدون في كلية الحقوق في احتفالية عظيمة تتخللها أنشودة فلسطين والقدس للفنانة فيروز التي تُلهب حماس الخطباء والطلاب والهتافات المدوية في مظاهرة الشباب داخل حرم الجامعة. ويشاء ربنا سبحانه وتعالي أن يهدينا الطريق إلي مدينة فيينا عاصمة النمسا وجنة الورد فيها كما صورتها الفنانة أسمهان في أغنيتها التاريخية التي صاحبنا صداها علي ضفاف نهر الدانوب العظيم وحقول الورد علي امتداد البصر بألوانه الزاهية ورائحته العطرة التي تملأ الأجواء مع أصداء أغاني محمد عبدالوهاب عن الورد وعشاقه. وعاشق الورد قد يتخيله أغلي هدية حتي ولو قدمها في الصحراء عندما تكون احتياجات عابر الصحراء أكثر ضرورة من الورد.. وهو ما تنبهت إليه بعد فوات الأوان عندما اصطحبت الدكتورة الأستاذة بكلية الآداب عدداً من طالباتها في رحلة علمية إلي برج العرب بالصحراء، ونزلوا ضيوفاً لعدة ليال في فيلا تملكها كلية العلوم سبق أن بناها الإنجليز وقت الاحتلال البريطاني لمصر وزودوها بكل الإمكانيات للمعيشة.. وذهبت لزيارة الدكتورة وطلابها وأخذت معي وردة حمراء قدمتها لها.. وكانت دهشة الطالبات من الهدية التي حملها الأستاذ إلي زوجته في وقت يحتجن فيه لوجبة طعام شهية، ويا حبذا لو كانت مملحة كالسردين والفسيخ.. وعندما آمنت بما قاله الاقتصاديون عن القيمة الحدية للسلعة.. فقد كانت القيمة للوردة عالية في نظر الذي يهديها ولكنها لم تكن تساوي شيئاً في مقابل ما اشتهت إليه الأنفس من وجبات غذائية في عزلتها بالصحراء.. ولكن الذين يقيمون كلام الورد صحت عقولهم على قيمته وقالت فتيات.. ليت الله يرزقنا بزوج حبيب يهدي لنا الورد بكل ما يحمله من معني جميل. وماتت التي كانت تفهم لغة الورد وهي تحتفظ بوردة خطوبتها نصف قرن من الزمان.. ذهبت أواريها التراب مع حشد من الأجانب.. ولم أشأ أن أجعلها تذهب دون صحبة الورد فزرعته وسقيته علي قبرها وأحضرت لها من بلدتها المنصورة صحبة ريحان مزروعة في طين نيل المنصورة ذاتها.. وضعتها في شرفة حجرتها تفوح فيها رائحتها العطرة.. ويمر عليها أحبابها من زميلاتها وأهلها وطلابها ولسان الحال يردد ما ردده الموسيقار محمد عبدالوهاب.. مرَّيت علي بيت الحبايب. رحمها الله في ذكري وفاتها.. ورحم الزوجات والأزواج الأوفياء.. آمين