كان المشهد بالغ التعقيد في محيط المقر البابوي، الغضب ملمح رئيسي على وجوه الأقباط العازمين على تحطيم سيارة شيخ الأزهر والمفتي ووزير الأوقاف في أعقاب زيارة ل»البابا شنودة» في اليوم التالي لأحداث كنيسة القديسين يناير2011، والهتافات المعادية منزوعة «الحكمة» على صفحة التوتر الطائفي والعنف المضاد قبيل احتفالات عيد الميلاد التي حضرها في مشهد رسمي أخير نجلا الرئيس السابق «علاء وجمال مبارك». بلغ الاحتقان مداه في الشارع القبطي، ومؤشر الشعور بالاضطهاد حقق أعلى معدلات انهيار التناغم المجتمعي إزاء تكرار الاعتداءات على الكنائس في «يناير» على مدار عامين متتالين ،بدأت في «نجع حمادي» وانتهت ب«الاسكندرية». كل الطرق كانت تؤدي لانفجار مجتمعي تبلور في الخامس والعشرين من يناير بفعل سياسات النظام البائد إلى احتجاج شعبي تمخض عن «ثورة» أسفرت في 18 يوماً عن رحيل السلطة التي اتكأت طوال ثلاثين عاما على عصا «الطائفية» كضمانة وحيدة لاستمرار إذلال الوطن. في ميدان التحرير رفع المصريون شعارا ضمنيا «الدين لله والثورة للجميع»، تلك العبارة التي لم تحتوها «لافتة» في أركان الميدان، وإنما تجسدت في سلوكيات أبهرت العالم ,وتمكنت من محو الفرز الطائفي حتى تنحي المخلوع. عصر السبت 30 يناير كانت طائرات ال«إف 16» تحلق في سماء الميدان، تدنو من الرؤوس هبوطا في صورة الإنذار المبكر لإجهاض التلاحم الوطني المفاجئ، ويحدث صوتها ضجيجا زائدا أملا في وقف ثورة الهتافات الممهورة بالإصرار على مواصلة الانتفاض ضد الآلة القمعية حينئذ. من بين مجموعة تتمركز وسط الميدان يظهر الناشط رامي كامل منسق جبهة الشباب القبطي محمولا على الأعناق إلى جوار شاب سلفي، ومعاً يطلقان هتافا «مسلم ومسيحي إيد واحدة» في مواجهة طائرات «مبارك»، وتستمر الهتافات حتى ترحل رسائل النظام التهديدية بقوة وحدة المصريين. وفي الثالث من فبراير يصعد د.إيهاب الخراط رئيس لجنة حقوق الإنسان بالشورى للمنصة الرئيسية متحدثا للثوار، وحاكيا قصة المسيح الذي نادى في قومه «سلمية»، يهتز الميدان من الهتاف المطبوع بطابع الثورة ،ويتبادل الخراط حديثا مع منسقي المنصة عن ضرورة مواصلة الاعتصام في التحرير لحين إسقاط النظام لإدراك دولة «المواطنة الحقيقية» التي يتساوى فيها المصريون وفقا لمبدأ «المواطنة»، وتقام على أساس الكفاءة. ليلا يتنقل «مينا دانيال» شهيد أحداث ماسبيرو مع رفيقه المسلم «محمد حليمة» يرددان عبارات غنائية يعرفها الميدان «عارف ليه الثورة جميلة وحلوة وإنت معايا..».. ويتبادلان حديثا يلخص روح «الوطن» أن اسمي «مينا محمد حليمة» ويتقاسمان مع الأصدقاء حينئذٍ ابتسامات الصبر المبشرة بالنصر. ويتلخص مشهد الثورة الخالد في الفتاة المسيحية التي صبت الماء لصديقها للوضوء قبيل صلاة المغرب في إحدى ليالي الميدان العامرة بمصر التي حبست طيلة ما يزيد من ربع قرن خلف قضبان الفرز الطائفي. ثمة أسئلة الآن عن جدوى تلك المقدمة التي تضمنت رصدا لمشاهد وحدة المصريين في الوقت الذي تعصف فيه رياح الفتنة بمقدرات الوطن بأكمله، وتبدو الإجابة حاضرة في المفارقة بين ثمانية عشر يوماً غاب فيها الأمن غيابا كاملاً، بجانب السلطة الرسمية، وحضرت الوحدة الوطنية في أسمى حالاتها بعيدا عن توجيهات نظام يسعى للهيمنة. مسار الثورة التي صاحبتها أحلام الانتقال إلى مجتمع ديمقراطي يكفل الكرامة لمواطنيه بحسب محللين وخبراء في المراحل الانتقالية لمجتمعات الربيع العربي كان مرهونا باجتياز عوائق متعددة في مقدمتها وربما أخطرها على الإطلاق «الفتنة الطائفية». بادرت الكنيسة في «15فبراير «بإعلان تأييدها للثورة «البيضاء» على حد وصف بيان صادر عن المجمع المقدس إبان فترة البطريرك الراحل شنودة الثالث، ودب الأمل في قلوب الأقباط انطلاقا من حالة الوحدة غير المسبوقة بميدان التحرير. وصار التفاؤل سمة مميزة للمصريين قرابة 30 يوماً، قطعها أول حادث طائفي من نوعه جاء في «إحراق كنيسة الشهيدين مارجرجس ومارمينا» بقرية صول محافظة الجيزة، والتي عرفت إعلاميا ب«كنيسة أطفيح»، تلك الحادثة التي كانت بمثابة تطور جديد في أزمة «الطائفية»، عندئذ أشارت أصابع الاتهام ل«فلول النظام البائد» باعتبارهم أصحاب المصلحة في إشعال الحرائق في ثوب الثورة التي كانت تخطو ببطء باتجاه أهدافها، ومضى اتهام «الفلول» في الأحداث الطائفية ثابتا رغم وضوح أسباب الاحتقان على خلفية علاقة غير شرعية بين شاب مسيحي وفتاة مسلمة، ثم اقتحام الكنيسة بعد شيوع أنباء عن وجود «أوراق سحر» لبعض الأسر المسلمة بالقرية. لم يكن لهب «حريق الكنيسة» قد أخمد بعد حين أطلق المجلس العسكري استفتاء 19مارس مفتتح تقسيم المجتمع إلى معسكرين إسلامي وعلماني، ومنذ ذلك التاريخ المشئوم ضلت الثورة طريقها، وانحدر المجتمع إلى خطاب ديني استعلائي تبلور في عبارة «انتصرنا في غزوة الصناديق، واللي مش عاجبه يروح كنداً، مصحوباً بسيل من فتاوى «التكفير» وفرض الجزية على الأقباط وما شابهها. وفي الوقت الذي يريد الوطن إسعافا لحالة التفكك غير المتسقة مع الثورة خرج السلفيون في مسيرات ومظاهرات تطالب الكنيسة بالإفراج عن «كاميليا شحاتة» زوجة كاهن دير مواس، ووصل الأمر بتطور طبيعي للانقسام المجتمعي إلى حصار الكاتدرائية وإقامة صلاة المغرب في محيط سورها، متبوعة بتهديد صريح باقتحام الأديرة إذا لم يتم إطلاق سراحها. في النفق المرسوم ل«إجهاض الثورة» سار بعض المنتمين للتيارات الإسلامية، ونظراؤهم من دعاة الفتنة في الجانب القبطي، وبلغت الطائفية ذروتها إبان أحداث قرية «الماريناب» التي تسببت في مذبحة «ماسبيرو» في أكتوبر من العام 2011، إبان تلك الأحداث اعتصم الأقباط للمرة الثانية أمام مبنى الإذاعة والتليفزيون وحلت «الصلبان» محل العلم المصري، والعبارات الطائفية التي جاء أبرزها «بالطول بالعرض احنا أصحاب الأرض» محل شعارات الثورة، واشتعلت الأوضاع على خلفية خطابات تحريضية من أحد الكهنة قبيل تنظيم مسيرة لماسبيرو، اختتمت بمذبحة لشباب الأقباط، ضاعفها خطاب مذيعة التليفزيون المصري وقتئذ بضرورة نزول المواطنين لحماية الجيش من الأقباط. معين الطائفية لم ينضب رغم الدماء والحرائق وتنقلت شرارة الاحتقان الممهور بالعنف إلى «إمبابة» التي شهدت حريقا لكنيسة العذراء، مروراً ب«العامرية» التي شهدت عقابا جماعيا لبعض الأسر القبطية على خلفية حادث علاقة غير شرعية، ثم الشرقية بواقعة اتهام الكنيسة بإخفاء فتاة أشهرت إسلامها، ودهشور إزاء مشادة بسبب»قميص» بين شاب مسلم ومكوجي مسيحي، وحتى أحداث الخصوص والكاتدرائية، فضلاً عن عدة مناوشات تبدأ بحادث فردي وسرعان ما تنتقل إلى المجرى «الطائفي». تلك الحالة كانت مقبولة إبان فترة المجلس العسكري استنادا إلى اتهام مستمر لقيادات المجلس حينئذ بالانتماء للنظام البائد على حساب الثورة، إلى جانب حكومة رخوة تولاها عصام شرف وفشلت في تفعيل دولة القانون على أحداث طائفية كان لها أن توقف نزيف العنف الطائفي إذا حوكم الجناة أيا كان انتماؤهم. مع وصول الرئيس محمد مرسي للحكم أرادت جماعة الإخوان المسلمين أن تغير خطابها بما يتسق مع وضعية «السلطة»، في الوقت الذي بلغ القلق مداه في قلوب الأقباط خشية سيطرة الإسلاميين على الحكم وصعودهم اللافت سياسياً، انطلاقاً من خطاب مليء بالفتاوى الغريبة على أسماعهم والرامية إلى تطبيق الشريعة الإسلامية دون شرح وافٍ للفكرة. بعد مرور أعوام ثلاثة على الثورة المصرية تأكد بما لايدع مجالا للشك أن المناخ تحوّل وفقاً لمفهوم صاحب شخصية مصر د.جمال حمدان أن مصر الآن أصبحت تعيش مناخا محتقنا بعدما تحوّل هذا المناخ إلي سلوك طائفي يتم فيه تصنيف المصري وفق دينه، وبالتالي الوصول إلى مرحلة الفتنة الطائفية الحقيقية، التي أهدرت مفهوم وحقوق المواطنة. كان الرهان المصري في بداية الانتقال من مصر «مبارك» إلى مصر الوطن قائماً على قاعدة «إنّ النضال ضدّ الأنظمة المستبدة يُخرج أفضل ما فينا وكان التّآخي «العابر للطوائف» بين المصريين،شاهد على جماليات الثورة التي تاهت وسط أمواج الفرز الطائفي». ليس مقبولاً الآن أن يلقي النظام الحالي اتهامات على فلول النظام من ناحية التورط في اشعال «الفتنة»، باعتباره المسئول الأول عن القبض على الجناة والمحرضين والتأكيد الفعلي على دولة القانون. شواهد معالجات «الفتنة» في زمن «الإخوان» تقول إن النظام الحالي نسخة مكررة من نظام مبارك، غير أن الفارق بينهما يأتي في تكرار عبارات الحفاظ على الثورة من قبل مؤسسة الرئاسة، وترديد العبارات ذاتها «المصريون نسيج واحد» وغيرها من الكلمات منزوعة «القبول» لدى المصريين في مصر الثورة. يبدو التطور في مسار «الطائفية» بعد الثورة أكثر خطورة من سابقها إذا دققت في بدايتها في 14مارس بحريق كنيسة أطفيح، وانتهائها باعتداء على «الكاتدرائية المرقسية في 7 إبريل، والفاتورة يسددها الوطن بإجهاض ثورة دفع فيها دماء آلاف الشهداء للعبور إلى الحرية، وفي المقابل يبدو النظام منزوع «الحسم» سائرا في نفق الحلول «الروتينية» ومنتظرا على حافة ابرام صفقة مع الكنيسة لتدارك الأوضاع على خطى سابقة.