وضعت أحداث الكاتدرائية أوزارها على أعتاب الصلح الذى جرى بين أهالى الخصوص مسقط رأس الفتنة، والدماء تصرخ للقصاص من الجناة أيا كان انتماؤهم وجدران الكاتدرائية التي تلتصق بها روائح الغاز الكريهة شاهدة على فصل جديد من التمزق المجتمعي في مصر الثورة . فصل من الهدوء النسبي للأحداث تكتنفه مشاعر الغضب حبيسة قلوب أسر الضحايا من ناحية ،ووجدان البابا تواضروس الثاني الذي يقطع اعتكافه اليوم عائدا لمقره البابوي من ناحية أخرى، في المقابل تبدو مطالب الكنيسة هي ذاتها التي لم تفتأ تتبلور في أعقاب كل حادث طائفي منذ أربعين عاما ملخصة في «قانون دور العبادة ،وقانون للأحوال الشخصية ،ومكافحة التمييز ضد الأقباط» ،تلك الثلاثية التي تتبخر فور انقضاء تأثيرات الحادث بحادث أكثر فداحة. ثمة مفارقات بين ثنايا أحداث الخصوص التي امتد لهيبها ل«محيط الكاتدرائية» دون الإمعان في مسبباته، تأتي في حد التشابه الذي يميل ناحية التطابق بين بذرة الفتنة التي انطلقت في «منطقة الخانكة 1972» ونظيرتها في الخصوص. أولى المفارقات تبدو في التلاصق الجغرافي للمركزين ووقوعهما في محافظة القليوبية، مروراً بحالة الإنهزام المجتمعي التي صاحبت المصريين في الواقعتين مع اختلاف الظرف التاريخي، و«بدايات البطاركة» على الكرسي البابوي التي تزامنت مع الأحداث ،الخانكة مفتتح الأحداث الطائفية للبطريرك الراحل «البابا شنودة الثالث» ،و«الخصوص» لنظيره «تواضروس الثاني» ،وانتهاء بتشابك العلاقة بين الكنيسة و المؤسسة الرئاسية التي كان السادات على عرشها في «الأولى» تاركاً المجال للجماعات الإسلامية في تصفية معارضيه، والأخيرة»الخصوص» الواقعة في عهد رئيس منتخب ينتمي رأسا ل«جماعة الإخوان المسلمين». الثابت في الحادثتين أن الوطن كان على أعتاب مرحلة جديدة للمؤسستين «الرئاسية» و«الكنيسة»، مشابهاً تماماً لوضعه الحالي ،والمتغير يأتي في تطور الاعتداء من كنيسة في منطقة شعبية الثقافة إلى الكاتدرائية المرقسية «رمز المسيحية»، وأقدم المؤسسات الوطنية بحسب التاريخ المصري. على خلفية حادث اعتداء فردي في «الخانكة» انطلقت شرارة الفتنة التي أحدثت صداما ممتدا بين البابا شنودة الثالث والرئيس السادات ،وذهبت البلاد على أثرها إلى حافة هاوية «طائفية» في وقت كانت تتمدد فيه تبعات هزيمة 67 في أرجاء الشارع المصري، وعلى ذات الخطى تطورت أزمة كنيسة الخصوص التي راح ضحيتها 6مواطنين، وبلغت ذروة اشتعالها في أعقاب تشييع الجنازة باعتداء هو الأول من نوعه على الكاتدرائية مسبباً جرحاً غائراً في قلب وطن مثخن بالجراح منذ أعوام ثلاثة هي عمر الثورة. ما بعد أحداث «الخانكة» التي عالجها نظرياً تقرير تقصي حقائق تاريخي ل«د.جمال العطيفي» استمع الرئيس السادات لنصيحة الكاتب الصحفي الكبير محمد حسنين هيكل، وأقدم على زيارة للأزهر الشريف، ومثلها ل«المقر البابوي» مقدماً بين يدي زيارته حسن النوايا في احتواء أزمة ضاعفت من انكسار المصريين أملا في التوحد على هدف إدراك «الكرامة»، ورياح الزيارة أتت بما يشتهي الرئيس وقتئذ وأطمأن البابا شنودة للزيارة، وأفسح قاعة اجتماع المجمع المقدس ليدرك السادات صلاة الظهر ،ثم توج الوطن بانتصار تاريخي في أكتوبر 1973. المشهد الحالي إبان أحداث «الكاتدرائية» كان فرصة سانحة لبدء صفحة أكثر نقاء منزوعة «الاحتقان» أطاح بها بيان مستشار الرئيس للشئون الخارجية «عصام الحداد» الذي حمَّل الأقباط مسئولية الاعتداء، والأغرب من بيان الحداد الذي طرق على ألواح «الفتنة» الساخنة، هو إنكار الوفد الرئاسي الذي أعرب للقيادة الكنسية عن تبرؤه من تصريحات لأحد مستشاري الرئيس، لافتا إلى أنه لايعبر بالمرة عن مؤسسة الرئاسة. لاشيء في المعالجة الرسمية إذا أضيفت للحقبتين «الساداتية» و«الإخوانية» حقبة النظام البائد يبدو مختلفاً رغم متغير الثورة، الرئيس لم يعلن زيارته للمقر البابوي بعد اعتداء سيسجله التاريخ في أسطر سوداء على فترة حكمه، فضلاً عن إعلان زيارته للأزهر الشريف الذي بادر في موقف وطني معتاد بإرسال مندوبه لحضور جنازة ضحايا الخصوص بالكاتدرائية ،ساعيا بالتنسيق مع كاهن الكنيسة القمص سوريال لوضع آليات تهدئة في قرية قابلة للانفجار. والمستشارون في القصر الرئاسي لايدركون ربما وفقا لتصرفات المؤسسة قيمة القوة الناعمة للوطن الذي يتهاوى على كافة مستوياته ،ويحبث عن بارقة أمل وسط سحب سوداء تظلل وجوه مواطنيه. روتينية النظام المباركي في التعامل مع الحدث تظهر بين ثنايا دعوات لإنشاء مجلس للعدالة الوطنية، ومساعٍ لتدارك الموقف عبر مندوبين مع كبار الأساقفة ،والفارق بينهما هو نتائج التحقيقات المنتظرة في تحديد الجناة، أملا في إراحة الجانب القبطي الذي يبحث عن «الجاني» منذ أحداث الكشح. ليست عابرة أحداث «الخصوص» في ذاكرة الوطن ،بين سطورها تكمن تفاصيل شارحة لمتغيرات طالت المشهد الكنسي من ناحية ،والحركات القبطية من ناحية أخرى، ويمنح الهدوء النسبي الحالي فرصة كافية لقراءتها بعيداً عن صخب التصريحات التي تتبادلها الأطراف الساعية إلى تبرئة ساحتها وغسل يديها من «فتنة» لم تخمد بعد. مع بداية فترة البابا تواضروس الثاني كانت الأنظار تتجه بقوة إلى العلاقة بين الكنيسة والدولة في مصر الثورة ،والأقباط في شوق إلى عودة الكنيسة لدورها الروحي وإفساح المجال للشباب القبطي والقيادات السياسية لشغل مواقع ظلت شاغرة إبان فترة البطريرك الراحل، تزامنا مع بداية الفترة البابوية أعلنت الكنيسة انسحابها من الجمعية التأسيسية للدستور ،وبدأت الاحتجاجات تتجه لقصر الاتحادية في أعقاب إعلان دستوري محصن للرئيس، تعقيباً على الاحتجاجات جاءت تصريحات خيرت الشاطر محذرة للأقباط زاعما أنهم يمثلون 80% من المتظاهرين،وذهبت العلاقة إلى شاطئ التوتر بعد غياب قيادات الجماعة عن احتفالية عيد الميلاد ،تذرعا برفض البابا تواضروس لقاء المرشد. والبطريرك الجديد المعروف ب«صلابته» آثر غياباً عن قداس جنازة شهداء الخصوص مفوضاً الأنبا رافائيل سكرتير المجمع المقدس في إلقاء عظة القداس وسط موجات الغضب التي اهتزت لها أرجاء الكاتدرائية ،ورسائل الأنبا رافائيل التي تبلورت في عبارات ثلاث أولاها «نرفع شكوانا للسماء عسى أن تنتقم لدماء الشهداء، ونتمسك بإيماننا وعلينا ألا نبتعد عن الغضب ،ولن نترك وطننا مصر»، جاءت كاشفة عن الموقف الكنسي الجديد في التعامل مع أحداث الفتنة بعيداً عن اختزال للأقباط في شخص البابا ، صنعه النظام المخلوع. وحسبما أفاد كمال زاخر، منسق جبهة العلمانيين الأقباط فإن اعتكاف البابا تواضروس لم يحمل رسائل سياسية، وإنما جاء في سياقه الروحي اعتراضاً على بيان الحداد، لافتاً إلى أن البطريرك دعا الأقباط للصلاة ،لكنه لم يعلن صوماً انقطاعياً على طريقة البابا شنودة الثالث في التعامل مع الأحداث. إزاء الاعتكاف الذي صاحبه جلسة صلح عرفية فجرت غضب الحركات القبطية جراء ذاكرة مملوءة بجلسات الأحضان وتقبيل اللحى تنتهي إلا لاشيء ،اعتبر زاخر أن الجلسة التي أجريت في الخصوص تندرج تحت المثل الشعبي القائل «الصلح خير»، اتساقاً مع الإطار الشعبي للمنطقة ذات العصبية القبلية ورغبة من جانب الأهالي في تفكيك الاحتقان. على شاطئ الانتظار يترقب المصريون رد الاعتبار لدولة القانون في الأحداث الطائفية التي أزهقها نظام مبارك بتحالفات وصفقات بعد رحلة شد وجذب مع القيادة الكنسية حينئذ. يقول منسق جبهة العلمانيين الأقباط أن البابا تواضروس فوت على الدولة باعتكافه الروحي فرصة التفاوض مع الكنيسة باعتبارها ممثلة للأقباط ،لافتاً إلى أن لقاء مندوبي الرئاسة بالمقر البابوي تمخض عن حلول روتينية تصب في نفق «بيروقراطي» على طريقة شيخ السلطة في فيلم «الزوجة الثانية» التي تلخصها عبارة «الورق ورقنا والدفاتر دفاترنا»، مشدداً على ضرورة إرادة حقيقية لإنهاء الأزمة. ثمة أمنيات ذهبت أدراج الرياح كان من المنتظر أن تنتهجها مؤسسة الرئاسة منذ الشرارة الأولى ل«أزمة الكاتدرائية» أولها الإفصاح الفوري عن لجنة قضائية مستقلة للتحقيق في الأحداث ،مصحوبة بلجنة سياسية تكتب السطر الأخير في فصل الطائفية مستندة في معالجتها إلى انتهاء الفتنة من ذات المحافظة التي انطلقت منها. يقرأ زاخر الحدث الذي فارقته لجنة تقصي حقائق برلمانية من مجلس الشورى ذى البيان الباهت حيال الأزمة، أسوة بلجنة العطيفي حينئذ، من زاوية العقاب للأقباط على موقفهم الداعم لشيخ الأزهر في أعقاب اقتحام المشيخة باعتبارها رمزاً وطنياً، عطفاً على تخلي البابا تواضروس عن دوره كلاعب سياسي لحساب النظام لإعادة إنتاج الاختزال «المباركي» للأقباط. في الأفق تلوح بوادر لقاءات قادمة مع مندوبي الرئاسة مع مبعوث كنسي يوفده البابا تواضروس الثاني عقب عودته اليوم الأحد ،تلك اللقاءات بحسب منسق جبهة العلمانيين الأقباط ستسير إلى الأنفاق التقليدية إذا فارقتها «الشروط» التي تضمن جديتها ،بما يعني جدول أعمال بعيدا عن نظرية «إرضاء الأقباط». في المشهد الممهور بالقلق ذى الرماد القابل للاشتعال ،ظهر متغير جديد كاشف بدوره عن تغير طرأ بحكم الظرف الراهن على المشهد الكنسي يأتي في اجتماع المجلس الملي العام ،هذا الذي أصدر بيانا شديد اللهجة يحمل إدانة كاملة للأحداث، محملاً الرئاسة والحكومة مسئولية الاعتداء على الكاتدرائية ،دون أن تعلوه عبارة»، «وفقا لتوجيهات البابا تواضروس الثاني» بالمخالفة لما كانت عليه الأمور خلال فترة البطريرك الراحل. يقول زاخر «إن بيان المجلس الملي العام هو الأهم منذ إنشائه ،لافتا إلى أن تحرك المجالس المدنية المحسوبة على الكنيسة ينذر بموقف إيجابي في تغير تعامل الكنيسة مع الأحداث». على مسرح الاحتجاج حضرت الحركات القبطية أحد نواتج ثورة يناير كلاعب رئيسي فرض موقعه على المقر البابوي، تلك الحركات قسمها زاخر إلى فريقين ،الأول يندرج تحت مسمى «المجلس الاستشاري القبطي »، الذي يضم 40 حركة تنسق في مواقفها تحت مظلة المجلس ،وجاء موقفها في بيان مركز افتتح بضرورة تقديم اعتذار رئاسي للكنيسة ، مصحوبا بمطالب «إقالة النائب العام ،ووزير الداخلية «. بينما الفريق الثاني يقبع في منطقة خارج نطاق السيطرة من الكنيسة والمجلس الاستشاري يحسبهم منسق العلمانيين الأقباط مؤشراً مهماً للجالسين في مقاعد السلطة من ناحية «عدم استطاعة التنبؤ بردود أفعالهم إذا انتهى الأمر بعقد جلسة عرفية ثم حيل بين الدولة والقانون في زمن الإخوان». بين ثنايا الضباب المخيم على وطن يهفو إلى «الاستقرار» من أي درب جاء ،يخرج تقرير المجلس القومي لحقوق الإنسان مغايراً للمتوقعٍ ومحملاً وزارة الداخلية مسئولية تفاقم الأحداث ،ويحمل رصداً واقعيا لأسباب الحادث ،لكن تجارب الأحداث الطائفية مع التقارير تخشى انتهاء التقرير إلى أدراج خشبية حتى إشعار آخر. والكنيسة التي أزالت أثار الاعتداء والمناظر الكريهة لبقايا قنابل الغاز المسيل للدموع استعدادا لقدوم البطريرك، لاتزال مطالبها قائمة منذ أحداث الخانكة تلك المطالب التي كررها كبار الأساقفة على مسامع مندوبي الرئيس في زيارتهم الأخيرة للمقر البابوي والملخصة في قانون «دور العبادة «الحاضر في أعقاب كافة الأحداث الطائفية، و«الأحوال الشخصية للطوائف المسيحية» الذي تجري اتصالات الآن مع وزارة العدل لإقراره. يفسر البعض حدة القيادات الكنسية مع الوفد الرئاسي على أنه محاولة كنسية للخروج بأكبر المكاسب من أزمة بحجم الاعتداء على الكاتدرائية ،في حين يرى زاخر أن القضية ليست في قوانين في النهاية سيطبقها بشر. قطعاً أزمة «الكاتدرائية» ليست الأخيرة في وطن يحاصره «الاحتقان» من كافة جوانبه، ومجتمع يتنفس كراهية عبر خطاب تحريضي يدفع باتجاه إشعال حرائق في الجسد المصري ،وقنوات فضائية غير مسئولة تلقي يومياً من خلف شاشات حمقاء «كرات اللهب» على عشب «الطائفية» في مناطق يسكنها الجهل والفقر ،ومؤسسة رئاسية ترى مواطنيها من قمم «المقطم»،وتفسح المجال لمستشارين ضاقت بهم عقولهم إلا برغبة مستمرة في تجميل وجه نظام تقبحه معاناة المصريين.