أوصت بقراءة الفاتحة على قبرها.. وكتبت على بابه حكمة سيدنا على بن أبى طالب «الناس نيام فإذا ماتوا انتبهوا» بعد أربعين عاماً من البحث فى القرآن والسنة جاء كتاب «وأن محمداً رسول الله» تقف على قدمين واهيتين مستندة على طرف المنصة.. ووجهها الأبيض البشوش لا تفارقه ابتسامة سكينة ورضا مع كل جملة تنطق بها مبددة صمت القاعة الرهيب. عيناها الزرقاوان خلف نظارتها الطبية، مغلقة طوال الوقت أثناء حديثها وكأنها ودعت عالمنا إلى الأبد زاهدة فى مباهجه، آتية من عالم آخر لتروى فقط قصة حبها لنبينا وحبيبنا «محمد عليه أفضل الصلاة والسلام»، وقد بلغت فى هذه اللحظة الثمانين من عمرها، وتخشى أن ترحل قبل أن تسجل كلماتها الأخيرة. ما الذى بينك وبين الله يا «آن» لكى تختارى أن تعيشى حياة الزهاد فلا زوج ولا ولد وسط مفاتن أوروبا وصخبها، ربما لأنك المولودة فى عام 1922 بمدينة إيرفورت وسط ألمانيا، ولم تكن الحرب العالمية الأولى ببعيدة عن الذاكرة بكل مآسيها وخرابها النفسى والروحى الذى خلفته للبشرية، أو ربما لأنك عاصرت فى شبابك البكر الحرب العالمية الثانية، وسنواتها العجاف من التطرف والعرقية والقسوة والصراعات السياسية والعسكرية والفكرية، فتختارى طواعية وبسلام أن تسيرى فى طريق البحث لأكثر من ستين عامًا فى رحاب اللغة العربية مستكشفة مصادر السلام والحب للوجود الإلهى فى الثقافة الإسلامية وينابيعها الأصيلة والمشى ببطء وحكمة على هدى خريطة تمتد من طنجة إلى جاكرتا، وبألسنة ولغاتٍ تربو على العشر: العربيّة والفارسيّة والتّركيّة والبشتويّة والأوردية والسّنديّة والبنجابيّة والسّواحليّة.. مضيفةً إلى ذلك اطّلاعًا على بحوث وكتب حول هذه الثقافة بالألمانية والإنجليزية والفرنسية والإيطاليّة والإسبانية والرّوسيّة واليابانيّة، وزياراتٍ إلى بلاد المسلمين تبحثين فى الوجوه المسلمة البسيطة عن معانى القرآن الكريم وسيرة الرسول الكريم محمد عليه أفضل الصلاة والسلام، فاستحققتى عن جدارة وصف المفكر الإسلامى «عبد الحليم خفاجي» فى معظم كتبه ب«مؤمنة آل فرعون». تقول المستشرقة الألمانية «آن مارى شميل» التى رحلت عن عمرٍ ناهز الثمانين عامًا فى مدينة بون فى يناير عام 2003، ملخصة فلسفتها للوجود وكيف صارت فى طريق الله تتأمل بديع مخلوقاته، فى رحلة إيمانية قطعتها فى اثنين وستين عامًا: إننى أؤمن أن الماء الصافى سوف ينتصر بحركته الدءوبة على مر الزمن على صم الحجر. إننى أتوجه مع رجاء العون من أجل خدمة السلام بالشكر أولاً وأخيراً، إلى من توجه إليه «جوته» فى الديوان الشرقى بقوله: «لله المشرق.. لله المغرب.. والأرض شمالاً والأرض جنوباً تسكن آمنة بين يديه هو العدل وحده يريد الحق لعبده من مائة اسم من أسمائه تقدس اسمه هذا. آمين» أكثر من مائة كتاب أصدرتها المستشرقة الألمانية «آن مارى شميل»، ثمانين منها من تأريخ الشرق والإسلام والتصوف والفكر والشعر وتُرجمت مجموعة من الكتب من لغاتٍ شرقية إلى غربية وبالعكس. هذا الشعور الإيمانى الراسخ الذى استحوذ على المستشرقة الألمانية «آن مارى شميل» يرجعه فى دراسة رائعة الباحث العراقى أ.د. حامد ناصر الظالمي- كلية التربية للعلوم الإنسانية/ جامعة البصرة مشيرًا إلى أن «شميل» أعمالها عبارة عن قصة حب تعيشها وتكتب عنها وليست هى مُكرهةً عليها، فهى تعيش الشخصية والحالة التى تريد الكتابة عنها بل وتتشبع بها تمامًا حتى لو كانت تكتب عن شيء لا يتَعلَّق بالفكر إذ يقول تلميذها بيرجل مثلًا: كانت شيمل تحب القطط وكُنّا نراها عندما تغادر الجامعة فى تركيا بعد انتهاء المحاضرة تنحنى على الأرض لترفع إحدى القطط وتضمّها إلى صدرها، بعد سنوات نشرت شميل كتابًا بعنوان القطة الشرقية صدرت طبعته الأولى سنة 1983 والطبعة الثانية سنة 1989. ما بين أول كتاب نُشِرَ لها عن شعر جلال الدين الرومى (1207–1273) الذى عشقته شميل فزارت قبره أكثر من مائة مرة وترجمت أعماله وكتبت عنه مجموعة من البحوث والدراسات، وبين كتابها الأخير (شرق وغرب حياتى الغربيةوالشرقية) وتَحدَّثت فيه عن سيرتها العلمية والشخصية، يجيء كتابها فى عام 1981 «وإنّ محمدًا رسول الله» التى أعادت طبعه عام 1987 وترجمه إلى العربية الدكتور عيسى على العاكوب عام 2008. عنوان الكتاب فى حد ذاته حكاية تروى عنها، فهو النصف الثانى من نطق الشهادة فى الإسلام، فالمسلم يقول أشهد أن لا إله إلاّ الله وأنّ محمدًا رسول الله، وكأن «آن مارى شميل» تخبرنا بتسليمها منذ زمن بعيد بوحدانية الله، وكيف لا وهى من جلست ساعات طويلة فى حضرة الشاعر الباكستانى الكبير محمد إقبال مترجمة له عدة دواوين شعرية هى «جاويد نامة» و«جناح جبرائيل» و«رسالة الشرق» و«زيوم عجم». كما أحبت «آن» كل ما هو عربى وإسلامى فأصدرت عام 1973 كتابها «الأسماء الإسلامية من على إلى الزهراء». ثم كتابها «أدعية ومناجاة إسلامية»، الذى ترجمته من العربية إلى الألمانية. فى كتابها «وأن محمداً رسول الله (ص)» والمؤلف من اثنى عشرَ فصلًا سيلاحظ من قرأ الكتاب أن هناك فضولاً محبباً لدى المستشرقة الألمانية «آن مارى شميل» لمعرفة دقائق وتفاصيل البيت المحمدى، حتى عناوين الكتاب تأتى وكأنها أحكام منصفة أمام الآخر الغربى عن رسولنا الكريم محمد عليه أفضل الصلاة والسلام، فهى مثلًا تخصص عنوان الفصل الثاني: محمد الأسوة الحسنة، الفصل الثالث: المنزلة الفذّة لمحمد، الفصل الرابع: أساطير ومعجزات، الفصل الخامس: محمد الشفيع والصلاةُ عليه. الفصل التاسع: إسراء النبى ومعراجه، الفصل العاشر: الشعر فى مدح النبى. وهكذا تظل مسترسلة فى رصد أحداث السيرة المحمدية العطرة حتى ترفق الكتاب بصفحاته الثلاثمائة وسبعين صفحة من الحجم الكبير بملحق تعطيه عنواناً جميلاً هو: الأسماء المباركة للنبى. وجاءت حواشى الكتاب وتعاليقه فى مائة صفحة متضمنة المراجع والمصادر التى إستقت منها المؤلفة معلوماتها والتى كلفها جمعها عناء وجهداً كبيرين قوامه الرحلة والتنقل الميدانى والاطلاع المباشر على كل مظاهر التعلّق والحفاوة والحبّ الراسخ الصادق الذى لا يتزعزع لرسول الله صلى الله عليه وسلم رغم ما يبدو على بعض هذه الفئات عليها من معاناة فى حياتها اليومية، الأمر الذى يقف حجة وبرهانا ودليلا قاطعا على أن هذا النبى الكريم وهذا الرسول العظيم سيدنا محمد بن عبدالله عليه الصلاة والسلام إحتلّ هذه المكانة فى القلوب بما جاء به من الحق المنزل فكان عليه الصلاة والسلام أحب إليهم من أنفسهم وأولادهم وأموالهم وهو حب تذوقوا به حلاوة الإيمان ومعرفة الله الواحد الأحد. تجد «شميل» فى الكتاب أسباباً وجيهة وعديدة لتعلق المسلمين برسولهم، مبرزة تأثيره الهائل فى حياتهم، شارحة أنه ربما سيفهم القارئ غير المسلم من شهادة الفقهاء والشعراء العرب والإيرانيين والأتراك والمسلمين فى الهند وفى إفريقيا كم هو عميق حبّ المسلمين له وكم هى حارة ثقتهم به واطمئنانهم إليه وكم حظى بالتبجيل واستدعيت ذكراه على امتداد الأعصر وكم أحيط بالألقاب الأكثر ألقاً ومجداً؟ سيجد أن محمداً يشكل حقاً الأسوة والمثال لكل مؤمن مسلم. تبدو قناعات المستشرقة الألمانية «آن مارى شميل» تجاه رسولنا الكريم والدين الإسلامى وحبها الصادق للقرآن فيما ذكره عنها الدكتور أحمد زكى يمانى أنها عندما كانت «تذكر الرسول (ص) تقول قال حبيبى وقُرّة عينى رسول الله (ص) ثم تذكر الحديث النبوى الشريف سندًا واتصالًا ومتنًا». ولذا أوصت الدكتور يمانى أن يقرأ سورة الفاتحة على قبرها بالعربية يوم دفنها، وكتبت على بابه حكمة سيدنا على بن أبى طالب «الناس نيام فإذا ماتوا انتبهوا». وأخيرا وعلى الرغم من أنباء كثيرة ترددت عن إسلام شميل، غير أنها لم تشهر إسلامها حتى وفاتها، وأنا أقول وهل هى ممن تبوح بمنازل الوصل مع خالقها.