يمثل تاريخ مصر فى القرن التاسع عشر كنزا وثائقيا ومعرفيا لمؤرخى التاريخ ومحلليه وظهرت بالفعل كتابات عديدة تتناول كافة مناحى الحياة فى مصر فى ذلك القرن المتخم بعواظم الأمور كالأزمة المالية وتدخل النفوذ الأجنبى والمحاكم المختلطة وقناة السويس والتعليم. وغير ذلك مما مر ببر المحروسة مصر ولكن وعلى الرغم من سيل هذه الكتابات التاريخية يظل البحث فى الناحية الحربية أو القراءة فى صفحة من صفحات الجيش المصرى مجهولة والكتابة عنه تتم باستحياء لذلك يجيء كتاب الدكتور «محمد محمود السروجى» أستاذ التاريخ الحديث بكلية الآداب جامعة الإسكندرية وهو المؤرخ الجليل الذى تجاوز عمره التسعين بعنوان (الجيش المصري.. فى القرن التاسع عشر) لينير لنا وللأجيال القادمة من شباب مصر طريق مفروش بالبطولات والتضحيات قام بها أجدادنا من المصريين وسجلوا فى لوحة الشرف أعظم البطولات العسكرية. وكتاب الدكتور «محمد محمود السروجي» يتناول الجيش المصرى البرى حيث رأى المؤلف أن الجيش المصرى البحرى يحتاج إلى كتاب منفصل أيضاً لم يتناول الحروب التى قام بها الجيش المصرى فى النصف الثانى من القرن التاسع عشر ولم يذكر سوى إلا العمليات الحربية التى اتصلت بمقاومة تجارة الرقيق التى أخذ الجيش المصرى على عاتقه القضاء عليها فى السودان وكذلك مقاومة العرابيين للتدخل الأجنبي. والكتاب على هذا النحو يقدم بانوراما تاريخية ممتعة وشيقة عن الجيش المصرى فى عصر «محمد علي» من حيث نشأته ونظام التجنيد إلى المدارس الحربية والاستعانة بالخبراء الأجانب وإرسال البعوث العسكرية إلى أوربا وعدد قوات الجيش ومصانعه الحربية وهذه الأسطورة العسكرية التى صنعها «محمد علي» و التى للأسف انتهت عند تسوية عام1841 التى حددت عدد قوات الجيش المصرى بثمانية عشر ألف رجل فى أوقات السلم وتحديد مدة الخدمة وملابس الجنود ورتبهم وأعلام الجيش وغير ذلك من تفاصيل تقيد الجيش المصرى وتحد من قوته العسكرية والقتالية. بداية قصة ملحمة الجيش المصرى كما يرويها الدكتور «محمد محمود السروجي» عندما استتب «لمحمد على» الأمر فى ولاية مصر سنة 1805 وجد أن قوة مصر الحربية تتكون من شرذمة من الرجال جمعوا من أماكن متفرقة ولا تربطهم بمصر صلة فهم مزيج من الترك والألبانيين والمغاربة والدلاة ولم يكن لدى هؤلاء الجنود وطنية أو مثل عليا يعتزون بها. بل كان يجمعهم حب السلب واقتسام الغنائم أكثر مما تجمعهم راية واحدة. فلم يكن فى مصر إذاً فى ذلك الوقت جيش بالمعنى الصحيح ورغم ما أحرزه هؤلاء الجنود من انتصارات، فلم يكن «محمد علي» راضياً عنهم لأنهم كانوا كثيري التمرد والعصيان فحدث أن تأخر «محمد علي» مرة فى صرف رواتبهم فماكان منهم إلا أن اصطفوا أمام قصره وأطلقوا النار عليه فأمر «محمد علي» حاميته ألا تقابل عملهم بالمثل وحذا حذوهم الدلاة وساد الرعب والهرج والمرج أنحاء القاهرة مدة ثمانية أيام ولم يستتب الأمن إلا بعد أن دفع «محمد علي» رواتبهم التأخرة. ويشير الدكتور «محمد محمود السروجي» إلى أنه وعلى الرغم من كراهية المصريين فى البدء للدخول فى الجندية بعد فشل «محمد علي» فى تكوين جيش من السودانيين لعدم تحملهم المرض مهما كان تافهاً وموت العشرات منهم إلا أن هؤلاء الجنود المصريين استطاعوا أن يظهروا براعة قتالية فائقة وينخرطوا فى سلك الجهادية ويخوضوا مع «محمد علي» معارك كبيرة فحارب الجيش المصرى الوهابيين سنة1811 1818 وتغلب عليهم ثم حارب مع إسماعيل ابن «محمد علي» سنة 1820 فى السودان وتمكن إسماعيل بمساعدة صهره الدفتردار بك من فتح الأراضى السودانية وإلحاقها بمصر ثم ظهرت قوة مصر الحربية مرة أخرى فى حرب المورة سنة 1824، حيث استعان السلطان بمحمد على فى إخضاع ثوار شبه الجزيرة بعد أن فشلت أربع حملات تركية فى إخضاعهم وتمكنت الحملة من النزول إلى شواطئ اليونان والاستيلاء على مدنها الرئيسية مثل: تريبولتزاوبترس ومسولونجى وأثينا ولم يعق تقدم القوات المصرية سوى تدخل الدول الأوروبية لوضع تسوية للنزاع القائم بعد موقعة نوارين وبذلك جلت القوات المصرية عن اليونان فى أكتوبر سنة 1828. ويورد الدكتور» محمد محمود السروجي» رسالة بعث بها المستر «باتريك كامبل» القنصل الإنجليزى العام فى مصر عام 1840 إلى اللورد «بلمرستون» ليبين ما فى مضمون هذه الرسالة من شعور الإنجليز بالدهشة والإعجاب بشجاعة الجيش المصرى وبسالته ونص الرسالة مفاده: «مع أن الجيش المصرى ليس فى مركز يمكنه من أن يوازن بينه وبين الجيوش الأوروبية التى نظمت تنظيماً راقياً إلا أنه يخيل إلى بأنه يفوق أى جيش آخر كونته حكومة شرقية كما أنه فى حالة تجعله قادراً على أن يقهر أية قوة عسكرية يواجهه بها الباب العالى أو أية دولة إسلامية أخرى « ويعقب الدكتور «محمد محمود السروجى » على هذه الرسالة بقوله: إن تجربة استخدام المصريين فى الجيش المصرى فى العصر الحديث قد أثبتت نجاحها وقضت على الادعاء الذى ظل يردده الكثيرون بأن المصرى لا يصلح للجندية وبأن بعده عن الجيش مئات السنين جعله مرتبطاً بأرضه وبحقله لا يود مفارقته أو الابتعاد عنه ومن ثم فهو غير صالح لأعمال الحرب وإذا كانت قوة الجيش المصرى قد أصبحت حسب تقدير قنصل إنجلترا بمصر قادرة على قهر أى عدوان يقع عليها من جانب الدولة العثمانية أو أية دولة إسلامية وذلك بعد سنوات من التدريب والإعداد فإن دل على شيء فإنما يدل على قوة الفلاح المصرى الذى كان عماد الجيش فى ذلك الوقت واستعداده لأن يكون جندياً ممتازا إذا ما اتيحت له الظروف لتلقى تدريباً عسكرياً راقياً.