ما يبعث على القلق ليس هو مصير الشرعية الدستورية أو مصير الدستور الجديد الذي بدأت المرحلة الأولى للاستفتاء عليه أمس الأول - السبت – أو المساحة التي يتعين أن تحصل عليها قوى الموالاة أو قوى المناهضة في الخارطة السياسية. وإنما ما يفت في عضدي هو مآل الدولة المصرية بمكوناتها المتجذرة في التاريخ والجغرافيا وأنساقها الحضارية الضاربة في القدم , والمتعددة المصادر والتي فرضت سطوتها على الواقع المعاصر بحكم أنها دولة مركز ومحورية التأثير بعناصر قوتها الصلبة في مراحل سابقة, وقوتها الناعمة بعد أن توارت لصالح بروز قوى إقليمية ودولية أخرى في النظام العالمي السائد منذ أكثر من ستين عاما أو أكثر قليلا. أقول ذلك وعيني على حالة التشظي والانقسام ,التي باتت تسود المشهد العبثي في المحروسة على نحو أضحى من الصعوبة بمكان القفز عليها في المدى المنظور, بعد أن أريقت دماء ,وكسرت أجساد ,وهزمت أرواح , فاتسعت الهوة وغدت المسافات متنائية لا يجدي معها حوار وطني , أو محاولات جادة للتقارب. والمؤكد أن النخب السياسية بتجلياتها المتنوعة وتحت المسميات العديدة والتي أخذت شكل المتوالية العددية في سرعة نموها, ثم انشطارها إلى مكونات أصغر هي من أفضت إلى هذه الحالة الغير سوية التي تعيشها المحروسة على نحو ربما لم تسبقه في تاريخها الحديث منذ نشأة دولة الباشا محمد علي منذ ما يقرب من القرنين, ولاشك أنه إذا استمرت هذه الحالة وفق معدل التشظي الذي تابعناه على مدى الأسابيع القليلة المنصرمة فإن الدولة المصرية مرشحة للانضمام لنادي الدول الفاشلة, بوضوح أكثر فإنها مرشحة لأن تتحول إلى صومال جديد قبل أن يحسم أمره قبل أِشهر ويدخل منطقة استعادة العافية بعد أكثر من عقدين أمضاهما في حالة حروب أهلية وقبلية واحتقان سياسي شديد انتهى بتدخل إقليمي وأجنبي, وضعها- وما زالت - تحت الوصاية الخارجية, ولم تكن أفغانستان تحت حكم حركة طالبان ثم تحت حكم كرازي المدعوم أمريكيا وغربيا بمنأى عن مفهوم الدولة الفاشلة . والمعضلة في هذا السياق, أن مصر أوشكت على السقوط في مستنقع الدولة الفاشلة في السنوات العشر الأخيرة من حكم الرئيس السابق مبارك ,وكانت أنموذجية في تطبيق محددات هذه الدولة التي صاغتها علوم السياسة والتنظيم الدولي سواء من حيث غياب تصور سياسي اقتصادي لمجتمع ما، وسلعة الأمن (هي أهم سلعة سياسية)، والتعليم والخدمات الصحية، والفرص الاقتصادية، والإشراف البيئي، والإطار القانوني لتحقيق النظام، والطرق ووسائل المواصلات، وعندما تنتهك الدولة التزاماتها أو من خلال بروز مؤشرات على ضعف مؤسساتها ليس التنفيذية فحسب بل والتشريعية أو تبعية الهيئة القضائية للسلطة التنفيذية وهو ما يحول دون حصول المواطنين على العدل والإنصاف، فضلا عن انتهاج فرص اقتصادية غير متوازنة، وتوافرها لقلة مميزة ومحددة، مما يسهم في توسيع دائرة ثراء فئة على حساب المجموع العام للشعب الذي يتضور جوعاً، وازدهار الفساد على نطاق تدميري، وكذلك الإسراف في مشروعات دون جدوى، على حساب التعليم والخدمات الصحية والثراء على حساب الدولة. ويقود توافر هذه السمات إلى أن تفقد الدولة وظيفتها الأساسية، وتتقلص شرعيتها، وقد تنتقل من الفشل إلى الانهيار وهو ما حال انبثاق ثورة الخامس والعشرين من يناير2011 إلى الحيلولة دون بلوغ مستوى الانهيار للدولة المصرية والتي كان من المتوقع أن تبلغه لو تم فرض مشروع توريث السلطة من مبارك الأب إلى مبارك الابن. والراصد للسمات السائدة في الوقت الراهن, لن يعثر على تحسن حتى لو كان نسبيا فيها عما كان سائدا في سنوات مبارك - والتي بدأ البعض وحتى لو كانت أعدادهم محدودة تبدي نوعا من التحسر عليها- وهو ما يجعلني أحذر من مقاربة خصائص الدولة الفاشلة في مرحلة ما بعد ثورة يناير ,والتي مضى عليها ما يقرب من العامين دون أن يشعر المواطن بشرائحه المختلفة بأن ثمة تغييرا جوهريا في مسار حياته اليومية, فالأزمات بأنواعها الأمنية والاقتصادية والاجتماعية تتفاقم وحضور الدولة غدا باهتا وهو ما تلمسه كل عين ويحزن له كل قلب, بعد أن بات الانفلات الأمني سيدا في الشوارع والطرقات والمناطق النائية ,وليس ثمة شعور بالطمأنينة لدى الوجوه العابسة التي فقدت بهجتها التي استعادتها في الحادي عشر من فبراير 2011 أي بعد سقوط مبارك ورموز حكمه لكنها سرعان ما تلاشت ليس من الوجوه وإنما من الأفئدة والوجدانات أيضا . والسر وراء ذلك هو أن النخب السياسية التي تصدرت المشهد بعد رحيل أسوأ نظام حكم في تاريخ المحروسة , لم تعر الاهتمام إلا لمصالحها الحزبية والشخصية دون أن يبرئ المرء بعض المنتمين للثورة الذين أدهشهم احتواء الفضائيات لهم فضلا عن قوى سياسية واقتصادية قدمت لهم الطعم اللذيذ , فسقطوا في شباكها على الفور فاستنشقوا رائحة المال والسيارات الفارهة وارتداء الماركات العالمية شاهقة الأثمان. والأخطر من كل ذلك, أن كل فصيل بات يسعى إلى إقصاء الفصيل الآخر وتخوينه باعتباره يقود مؤامرة مفصلية عليه, وبالتالي يستحق العقاب والإبعاد والتهميش - إن لم يكن الإلغاء شبه الكامل من المشهد – وهو ما ولد حالة احتقان ظلت تتراكم مفعولاتها يوما بعد يوم شكلت الأرضية التي اتكأت عليها حالة التشظي الراهنة التي تعيشها المحروسة . وتجليات الخطر التي ينبغي مواجهتها بحسم للمحافظة على كينونة الدولة المصرية تشتمل على الآتي : *مؤسسة رئاسة ما زالت تحت التمرين لا تمتلك مشروعا للحكم, بالرغم من الشرعية القوية التي تمتلكها ,كونها جاءت حصيلة انتخابات حرة نزيهة ربما لأول مرة في عمر المحروسة المعاصر. * قوى وأحزاب وجماعات سياسية ودينية تتصارع من أجل الاستحواذ على المكان والمكانة , بعضها مصاب بضيق أفق ويفتقر للإبداع ومهارة الانخراط في الفضاءات الجديدة التي تشهد متوالية التحولات بشكل يومي, وما زال مسكونا بشعارات ومحددات تنتمي لقرون عديدة وتغيب عنه التطورات المتلاحقة في الفكر والسياسة وطرق الحكم , بينما بعضها الآخر ما زال قابضا على مقولات أيدولوجية باهتة وعرجاء وفاقدة للتفاعل مع منعطفات ومنحنيات الواقع . * سعى كل فريق لتأكيد حضوره عبر الشارع والميادين دون قدرة على التحاور والتجاذب بل والتنافس السياسي المقبول , وما بات يخيفني على هذا الصعيد لجوء بعض الأطراف إلى استخدام العنف والتهديد بملايين الأرواح دفاعا عن مواقفها أو حماية لمصالحها أو حتى تحت زعم حماية الشرعية, وهو ما تجلى بشكل عملي في واقعة الأربعاء قبل الماضي بقصر الاتحادية . * تجاهل الأولويات التي كان يتعين عليها التركيز منذ أن تولى الرئيس الدكتور محمد مرسي صاحب الشرعية, التي لا يجوز لأحد أن ينازعه عليها, والتي تتمثل في مقاربات مع أشواق الناس الكبرى والصغرى وفي مقدمتها وقف وتيرة ارتفاع أسعار السلع والخدمات الملموسة على نحو غير مسبوق في حركتها, واتساع دائرة البطالة وبقاء العدالة الاجتماعية خارج سياق الخدمة, فضلا عن الانكماش الاقتصادي واستعادة زخم القطاع السياحي التي تكابد ملايين العاملين فيه منذ سنتين شظف العيش والركود والملل, وغير ذلك من جوانب النقص في العمران الذي كان مأمولا بعد ثورة الخامس والعشرين من يناير. إن ما تتعرض له الدولة المصرية من محاولات تهدد مآلها ومصيرها من فرط تكالب نخبها السياسية على السلطة أو الحصول على أكبر مساحة من الكعكة لن يكون مجديا لأي منها, إن لم تعدل من مساراتها وتصحح من تصوراتها, للتعاطي مع قضايا وإشكاليات المحروسة التي تستوجب الدخول في مرحلة الحشد الوطني القائم على توظيف المشترك, وهو متاح بشكل يفوق مرئيات هذه النخب التي لا تتجاوز مواقع أقدامها, بعد وقائع الأسابيع الأخيرة وليس سوى الحوار والتفاهمات القائم على الإدراك الحقيقي لمواطن الخلل وتصورات الحلول سبيلا لتجاوز حالة انسداد الأفق السائدة الآن. السطر الأخير: وهبناك مفاتيح بيوتنا و"كلمة سر" قلوبنا قلنا: أنت البراءة والوداعة والنهر الذي سيفيض علينا , ذبحنا لك الأنعام , قدمنا لك الصحائف أطلقنا اسمك على شوارع المدينة أعلناك تميمة للبهجة العائدة , فوضناك تتحدث بعيوننا قلنا : أنت من سترسل البهاء للمدن المغلقة والزيت للصحارى الجائعة والسكن للأفئدة المتعبة والروح للأجساد المتهالكة والفرح بديلا عن الوجع. قلنا: يأيها الوارد إلينا من حقول البلاد ومن فيض الحدائق ومن نسائم الشمال هب علينا ريحا من سحر الليل وقوس قزح من فتنة الأصيل وألقا من غياهب الضوء. أرسلنا إليك عناوين بيوتنا, فتحنا لك الأبواب والنوافذ , شرعنا في كتابة اسمك أيقونة لأحلامنا. رددناك أغنية لعشقنا الذي لم يأت, كتبناك رقية لأوجاعنا, رسمناك شمسا تقينا عثرة عتمتنا. لكنك, عبثت بأوجاعنا سخرت من افتتانك بك, سافرت للضفة الأخرى. نقلا عن صحيفة الشرق القطرية