إن أخطر ما أسفرت عنه الأزمة الدستورية في مصر يتمثل في تقسيم المحروسة إلى فسطاطين، أولهما القوى الإسلامية بتجلياتها المتعددة، وثانيهما القوى المدنية المتنوعة المنابع والجذور والتي توحد أغلبها ضمن ما أطلق عليه بجهة إنقاذ مصر. صحيح أفق الانقسام بات مفتوحا على مصراعيه منذ انبثاق ثورة الخامس والعشرين من يناير بين كافة نخبها وفصائلها الثورية ولكنه كان انقساما ضمن السياق المقبول رغم أنني انتقدته غير مرة وفي هذا المكان بالذات. ولا شك أن ثمة مخاطر جمة سينتجها الانقسام الراهن الناتج عن الأزمة التي أعقبت إصدار الرئيس محمد مرسي للإعلان الدستوري يوم الخميس قبل الماضي والذي فجر حالة من الاحتقان الواسع بالذات لدى القوى المدنية التي سارعت بالتوجه إلى ميدان التحرير معلنة رفضها للإعلان ثم لمشروع الدستور الذي أقرته الجمعية التأسيسية على عجل دون توافق عليه من قبل كافة التيارات والقوى السياسية وهو ما شكل مصدراً لغضبها تجلى في انسحاب ممثليها من الجمعية قبل الانتهاء منه بأيام. وأول هذه المخاطر أن المحروسة لم تعد كما كانت إبان ثورة يناير على قلب رجل واحد وإنما تشظت نخبها السياسية على نحو مخيف وشاهدنا خلال الأيام المنصرمة نوعا من الاحتدام والاشتباك بين طرفي الأزمة بل والإقدام على ممارسات عنف لفظي إلى جانب العنف الذي امتد إلى مقرات حزبية وأخشى ما أخشاه هو أن تتكرس حالة التشظي إلى حدود يتم فيها تبادل إراقة الدماء وهو ما تسعى مختلف القوى إلى تجنبه، بيد أن ما يشاهده المرء من احتقانات وبروز حالة من الكراهية المتبادلة يمكن أن يفضي إلى معارك شوارع لا قدر الله، غير أنني على يقين بأن الأمر لن يصل مطلقا إلى مستوى الحرب الأهلية التي تحاول قوى إقليمية ودولية أن تروج لها في إطار توجهاتها التآمرية ضد المحروسة. ثانياً: انعدام الثقة بين القوى السياسية خاصة التيارين الرئيسيين: المدني وتيار الإسلام السياسي (مع ملاحظة وجود اختلافات داخل كل تيار) فهناك – كما يقول محمد بسيوني عبد الحليم الباحث بمركز الأهرام للدراسات الإستراتيجية فإن لكل طرف رؤية تقييمية متناقضة مع الطرف الآخر لم تكن نتاج ثورة يناير 2011، وإنما هي تجسيد لتراكمات عبر سنوات طويلة، وكان من شأنها دعم الاستقطاب بين التيارين خلال الشهور الأخيرة، فالتيار المدني يرى في المشروع الفكري للتيار الإسلامي مجرد رؤية تاريخية أصولية جاوزها الزمن، والنخب الإسلامية تفتقر للخبرات المطلوبة لإدارة الدولة. فيما يعد التيار المدني من وجهة نظر الإسلاميين ليس أكثر من تيار نخبوي يفتقد للتواصل مع القواعد الشعبية، كما أن مشروعه الفكري شهد استنزافًا واضحًا خلال عقود من الزمن. وانتقل هذا التناقض في الرؤى إلى مستوى آخر عقب إسقاط نظام مبارك، فخرج كل تيار من ميدان التحرير وهو يحمل أفكاره ومعتقداته الذاتية التي تتصادم مع التيار الآخر. بالإضافة إلى الصراع على السلطة، وسعي كل من الطرفين إلى تقديم نفسه على أنه الممثل الحقيقي للثورة. ثالثاً: لقد أفضى إصدار الإعلان الدستوري من مؤسسة الرئاسة في هذا السياق – الكلام للباحث نفسه - إلى حدوث تداخل مع الأزمات السياسية الأخرى، وبدت الهوة واسعة بين مواقف التيار المدني وتيار الإسلام السياسي، فتفاعل كلا الطرفين مع الأزمة بمفهوم وتوصيف مغاير بين تيار مدني متمسك بفكرة "الشرعية الدستورية" وتيار إسلامي رافعًا "الشرعية الثورية"، فقد وجد التيار المدني في الإعلان الدستوري فرصة سانحة لتجاوز الخلافات الأيديولوجية بين أطرافه، ومن ثمَّ شكل التيار المدني كتلة معارضة للإعلان باعتباره ترسيخًا لسلطات ديكتاتورية لرئيس الجمهورية بما يتضمنه من اعتداء على سلطات المؤسسة القضائية، وتمهيدًا لسياسات تهدف إلى سيطرة جماعة الإخوان على مفاصل الدولة، وانبثق عن التيار المدني تحالفٌ أُطلق عليه "جبهة الإنقاذ الوطني" يعمل ككيانٍ تنسيقي يجمع القوى الرافضة للإعلان الدستوري. رابعاً: لا تمكن – الكلام لكاتب السطور – تبرئة كل طرف من الحسابات الشخصية الضيقة في تعاطيه مع هذه الأزمة، فالقوى الإسلامية ترغب في تكريس احتكارها للسلطة على نحو أو آخر ربما شعورا بسطوة المكانة التي بلغتها عقب ثورة يناير ثم فوزها بالأغلبية في مجلس الشعب ثم مجلس الشورى ثم فوز الدكتور محمد مرسي في انتخابات الرئاسة وهو ما جعلها تتصدر المشهد وذلك النوع من المكانة السياسية من شأنه أن يدفع بمن يتبوأه إلى الشعور ربما بتضخم الذات أو السلطة وبالتالي يسعى إلى إقصاء الآخر وذلك في رأيي ينطوي على عيب خطير لأن أفق الحكم في المحروسة قابل لاستيعاب كافة الرؤوس ضمن سياق توافقي على نحو لا يمكن معه لتيار أو فصيل بعينه مهما كانت قدرته على التنظيم والحشد أن يحكم مصر بمفرده وإنما لابد أن يمد جسور التوافق مع القوى الأخرى. في المقابل لا أظن أن الرموز التي تقود ما يسمى بالقوى المدنية أو جبهة الإنقاذ الوطني تتحرك في إطار ينزع إلى مصلحة المحروسة فحسب وإنما هناك أمور تتعلق بمحاولة تصفية حسابات مع جماعة الإخوان المسلمين وبالذات الدكتور محمد مرسي الذي حقق فوزا في الانتخابات الرئاسية التي جرت في يونيو الماضي بينما خسر فيها بعض الرموز التي تقود الاحتجاجات العنيفة وهو أمر لمسه الدكتور عبد المنعم أبو الفتوح القيادي الإخواني الذي انشق عن الجماعة وخاص الانتخابات الرئاسية مستقلا فعوقب من القاعدة الإخوانية العريضة التي لا يمكنها التخلي عن مبدأ السمع والطاعة لقيادة الجماعة ذات السطوة الشديدة على أعضائها وهو ما يفسر ردة الفعل العنيفة على قرارات مرسي رغم أنها احتوت على بنود تتعلق بمطالب كانت تنادي بها القوى المدنية والثورية بعد إسقاط حكم مبارك الاستبدادي. خامساً: من الواضح أن ثمة خللا أصاب علاقة مؤسسة الرئاسة والتي تقود السلطة التنفيذية بالسلطة القضائية التي تتمتع تاريخيا في مصر بقدر من الاستقلال النسبي وهو ما يمكن أن يقود إلى حالة شلل في المشهد المصري الداخلي المرتبط عضويا بأجهزة هذه السلطة التي تنامى دورها وقوتها في الأشهر الأخيرة خاصة مع إصدار حكم المحكمة الدستورية العليا ببطلان انتخابات مجلس الشعب الأخيرة ثم تراجع الرئيس مرسي فيما بعد عن قراره بإعادة المجلس بعد شهرين تقريبا من حله بقرار من المجلس الأعلى للقوات المسلحة وهو ما وضع اللبنة الأولى في أرضية الشك المتبادل بين الرئاسة والقضاء ثم جاءت محاولة مرسي للتخلص من النائب العام المستشار عبد المجيد محمود عبر تعيينه سفيرا بالفاتيكان ومع ضغوط المؤسسة القضائية تراجع مرسي ولكن إصداره للإعلان الدستوري مؤخرا اعتبرته المؤسسة القضائية بكل مستوياتها اعتداء على هيبتها، وتجاوزًا من جانب السلطة التنفيذية وقاد نادي القضاة التصعيد عبر مطالبة رئيس الجمهورية بسحب الإعلان الدستوري، وقررت أغلب المحاكم تعليق أعمالها إلى حين إلغاء الإعلان، وعودة النائب العام المستشار عبد المجيد محمود والأخطر المتوقع هو تهديد القضاء بعدم الإشراف على الاستفتاء على مشروع الدستور مما يعني نوعا من العصيان المدني خطير الدلالة. السطر الأخير: أيا أسطورة الحقول أشاطرك العشق أرمح بخيلي في سواحلك راحلا في مداك أرسمك وردة المواسم والفصول أغزلك سفينة ترسو بواحتي تتدلى نسائمك على قلبي رطبا جنيا تنأى عني العتمة والأفول