في الوقت الذي تتصارع فيه قوي عديدة من أجل الانفراد بحكم مصر، ومن يكون له الغلبة فيها.. يتعرض «وجود مصر» نفسها لأخطر ما يهدد الحاضر والمستقبل معاً.. ولا نقول للمتصارعين علي السلطة سوف تجدوا أنفسكم غداً بلا وطن تحكمونه ولا شعب تتحكمون فيه.. لأن مصر وقتها ستكون قد ذهبت إلي غياهب التاريخ.. وصدقوني أن هذا هو ما سوف يحدث إذا استمرت صراعاتنا علي مقاعد الحكم، بينما حاضر مصر ومستقبلها مهددان بالدمار الحقيقي.. وهذا ليس ببعيد.. إن مياه النيل هي حياة مصر، وإذا كانت هذه المياه هي التي أقامت كل الحضارة المصرية في هذه الأرض.. فإن هذا المصدر مهدد بالضياع.. إن النيل الأزرق وغيره من الانهار التي تنبع من الهضبة الحبشية مثل السوباط وعطبرة توفر لمصر 85٪ مما تحتاجه من مياه.. وإذا كنا قد فقدنا الطمي الذي كان يأتي إلينا مع مياه النيل بسبب السد العالي.. فإن مصر سوف تفقد المياه نفسها.. كيف؟! إن مشروع سد النهضة الذي تنفذه إثيوبيا داخل أراضيها بالقرب من حدودها مع السودان ما هو الا مشروع لجس نبض المصريين ومحاولة لمعرفة رد فعل مصر تجاه هذا المشروع.. ولكن هل سد النهضة هو المشروع الوحيد الذي تنفذه إثيوبيا.. أقول بكل بساطة ان هناك 22 مشروعاً مماثلاً لمشروعات أخري تخطط اثيوبيا لاقامتها.. وهي مشروعات أمريكية اقترحتها لجنة خاصة من وزارة الزراعة واستصلاح الاراضي في أمريكا عندما ساءت علاقة اثيوبيا مع مصر بسبب توقيع مصر مع السودان اتفاقية تقسيم مياه النيل عام 1959 لتصبح حصة مصر من النيل 55.5 مليار متر مكعب سنوياً ويحصل السودان علي 18.5 مليار.. وتم ذلك دون استشارة إثيوبيا.. ودرست هذه اللجنة الامريكية الموضوع كله من وقتها أيام حكم الإمبراطور هيلا سيلاسي لإثيوبيا.. رغم أن جمال عبد الناصر حاول ترضية اثيوبيا بأن وافق علي انفصال كنيسة التوحيد الحبشية عن الكنيسة المصرية، بل واستقلالها، ولكن ظلت هذه المشروعات سيفاً في يد اثيوبيا تهدد بسقوطه فوق رقاب كل المصريين.. إلي أن وقع الانقلاب علي هيلاسيلاسي وتولي الحكم في اثيوبيا نظام مؤيد للشيوعيين بقيادة هيلامريم فحرك هذه المشروعات بدعم من موسكو التي أرادت الانتقام من مصر علي ارتمائها في أحضان أمريكا أيام الرئيس كارتر وإلغاء السادات قبلها للمعاهدة المصرية السوفيتية، أي اننا خسرنا مرة بالارتماء في أحضان أمريكا واخري بالارتماء والابتعاد عن موسكو، وحركت اثيوبيا كل هذه المشروعات التي جاءت من بنات أفكار واشنطنوموسكو معاً وتكاسلت مصر خصوصاً بعد أن أعطت ظهرها لكل إفريقيا وليس فقط لدول حوض النيل.. وبالذات بعد محاولة اغتيال حسني مبارك في اديس ابابا عاصمة اثيوبيا.. ومضت اثيوبيا تنفذ مشروعاتها في أعالي النيل وسط غياب كامل من رجال الري المصري.. وأتذكر أنني حاولت فتح هذا الملف أيام كان الدكتور محمد عبد الهادي راضي وزيراً للري.. ثم أيام خليفته المهندس عصام راضي ولكن كان هذا الموضوع كأنه حقل الغام يجب الابتعاد عنه.. وللحقيقة أقول ان الدكتور محمود أبو زيد، وزير الري الأسبق بذل جهوداً كبيرة لتعديل النظرة المصرية لدول حوض النيل.. كما حاول تعديل نظرة هذه الدول لمصر.. وكان الرجل يمشي علي الأشواك .. رغم انه نجح إلي حد ما في فك الاشتباك مع هذه الدول.. ولكن جاءت ثورة يناير وانشغلت مصر بالثورة حتي استغلت اثيوبيا بالذات هذا الانشغال المصري ومضت تنفذ مشروع سد النهضة.. وكان لي الحظ في زيارة منابع النيل الأزرق وبحيرة تانا في محاولة لكشف هذه الأبعاد وكان ذلك منذ أكثر من 10 سنوات.. ولكن مصر غرقت أكثر وأكثر وابتعد «كل» وزراء الري المصريين عن هذا الملف سواء في أواخر عصر مبارك أو منذ قيام ثورة يناير وحتي الآن.. بل أكاد أقول ان مصر فوجئت بالخطر الكبير بسبب «نوم» كل هؤلاء الوزراء.. وما تبعه من إبعاد كل الخبراء الذين يعرفون كل شيء عن هذه المشروعات، وفي مقدمتهم الدكتور عبد الفتاح مطاوع رئيس قطاع مياه النيل في الوزارة لعدة سنوات.. وبعد ان تولي مسئولية وزارة الري عدد ممن ليست لهم علاقة مباشرة مع مياه النيل، أو مع هذا الملف.. أو لم يكن أمامهم الوقت الكافي لمواجهة هذا الخطأ القادم من الجنوب.. الآن ماذا تفعل مصر وقد وقعت علي اتفاقية إطار عنتيبي 6 دول تعطيها الفرصة في أن تنفذ هذا الاطار بعيداً عن دولتي السودان.. وأيضاً عن مصر.. بينما ظلت باقي دول حوض النيل متأرجحة بين التوقيع وتأخير التوقيع.. وفي محاضرة ألقيتها في معهد الدراسات السياسية بحزب الوفد بدعوة كريمة من عميدته الدكتورة كاميليا شكري كشفت كل ذلك.. ولكن فاجأني سؤال من أحد المشاركين عن مصير مصر بعد مشروع سد النهضة.. والأهم من ذلك عن حجم المخزون المائي في بحيرة السد العالي وهل يكفي مصر لكم من السنين.. تحسباً للفترة التي قد تلجأ فيها اثيوبيا لملء الخزان الجديد لسد النهضة حتي تستطيع أن تولد من سقوط المياه كمية الكهرباء التي تريدها من هذا السد. وغداً - في الوفد الاسبوعي - أجيب عن هذا السؤال الصعب.. وما هو مستقبل مصر بعدها..