لا جريمة ولا عقوبة إلا بقانون.. والسلطة التأديبية تلتزم بضوابط الوظيفة العامة تنظيم العمل يقلل من فرص الخطأ ويحمى الموظف من المحاسبة معالجة أوجه النقص فى الجهاز الإدارى أهم من عقاب الموظفين المخطئين بدأت الوظيفة العامة فى أول أمرها صلة شخصية بين الحاكم وموظفين منتقين يثق فيهم، إن شاء أبقاهم، وإن شاء فصلهم، ظهر ذلك بصورة ملموسة فى نظم الحكم المطلقة، وفى ظل حكم محمد على وخلفائه حتى قبيل انتهاء القرن الماضى! وفى مثل هذه النظم لا يمكن الاستدلال على نظام متكامل للتأديب، فالأمر كان فى هذه النظم موكولا إلى الرئيس الإدارى الأعلى، يبقى الموظف مادام محلا لثقته، ويعزله من وظيفته، أو يوقع عليه عقوبة أخف إذا ما فقد الثقة فيه، أو تزعزعت هذه الثقة. ولم يكن لهذا النظام ثمة خطورة، لأن الوظيفة العامة - فى ذلك الوقت - كانت أمرا استثنائيا فى حياة المواطنين، ولأن الدولة كانت تتسم بطابع السلطة الذى لا يسمح لها بأن تتدخل فى حياة الموظفين إلا بأقل قدر، وفى مجالات محددة، هى الأمن الخارجى، والأمن الداخلى والقضاء، أما فى غير هذه المجالات، فقد كان على الأفراد أن يشبعوا حاجاتهم بأنفسهم، ولم تكن الدولة تلتزم قبلهم بشىء!! فى مثل هذا الجو كان الموظفون قلة، وتربطهم بالحاكم - أيا كانت تسميته - وأيا كان نظام الحكم - صلات وثيقة تقوم على النسب، أو الانتماء الطبقى، أو العنصرى، أو الحزبى! وانقلبت هذه الأوضاع رأسا على عقب، فقد أصبحت الوظيفة العامة حقا للمواطنين، نصت عليه الدساتير فى صلبها، وزال كل أثر للتمييز بينهم بسبب الأصل، أو الجنس أو الدين أو العقيدة فى هذا المجال، إن لم يكن على صعيد الواقع، فعلى الأقل فى مجال القانون والفكر!! وجاءت إلى مصر الأفكار الاشتراكية، فألغت تماما القيود التى كانت مفروضة من قبل الدولة فى ارتياد بعض المجالات، وأهمها المجال الاقتصادى، بحيث لم يبق هناك مجال واحد لا تستطيع الدولة أن تتدخل فيه! وبدلا من أن يقف دور الدولة عند رجل القوات المسلحة أو الشرطة، أصبحت مطالبة بأن تشرف على المواطن، وترعاه، من المهد إلى اللحد، وترتب على ذلك أن صارت الوظيفة العامة، هى الأصل، وأصبح عمال الإدارة يعدون بالملايين، ويعتمدون اعتمادا كاملا على ما يتقاضونه من الدولة من مرتبات ومكافآت ومنح وعلاوات وبدلات!! فى هذا الجو ظهرت الحاجة إلى وضع نظم أساسية للوظيفة العامة، تحدد أوضاع شكلها، وما تخوله لشاغلها من حقوق وما تفرضه عليه من واجبات. ويعتبر شريف باشا، رئيس مجلس النظار، الرائد الأول فى هذا المجال، فقد تقدم بتقرير إلى الخديو فى 20 أكتوبر سنة 1881 جاء فيه: «إن حالة المستخدمين الملكية تستحق التفات الحكومة إليها، فإنه ينبغى أن توضع قوانين تبين فيها الشروط التى يلزم مراعاتها فى قبول المستخدمين، وفى ترقيتهم ورفعتهم ليكونوا آمنين بما عساه يحصل فى أى وقت من الإجراءات الاستبدادية التى يترتب عليها منع تقدمهم، وتعويق ترقيتهم، فلهذه الأوجه قد تراءى لمجلس النظار لزوم إحالة تحضير هذه القوانين، على عهدة «قومسيون» يتعين لهذا الشأن. وكان من ثمار نشاط «القومسيون» المشار إليه فى مذكرة شريف باشا، صدور الأمر العالى المؤرخ 10/4/1883، الذى يعتبر بداية التنظيم التشريعى فى هذا المجال، وإلى غيره من التشريعات التالية ثم صدر بعد ذلك الأمر العالى المؤرخ فى 24 مايو سنة 1885، بتعديل نصوص الأمر العالى الصادر فى 10/4/1883، المتعلقة بالتأديب، وفى 19/2/1887 صدر أمر عال بجواز مسئولية النظار ورؤساء المصالح، وكبار المأمورين لدى محكمة عليا إدارية، ثم صدر الدكريتو المؤرخ 24/12/1888، بتشكيل محكمة عليا تأديبية، ثم أعقبه صدور دكريتو آخر فى 23/3/1901 بشأن العقوبات التأديبية التى توقع على الموظفين والمستخدمين بالمصالح الملكية، وفى 22/9/1930 صدر أول مرسوم ببيان طريقة فصل الموظفين المعينين!! على أن نظام الموظفين العموميين دخل فعلا فى مصر بصدور القانون رقم 210 لسنة 1951، ثم خطا المشرع خطوة حاسمة فى أعقاب المد الاشتراكى، الذى بدأ سنة 1961، وبلغ أقصاه سنة 1963، إذ أصدر القانون رقم 46 لسنة 1964 فى شأن العاملين المدنيين بالدولة، ثم أحل محله القانون رقم 58 لسنة 1971، ثم أحل محله القانون رقم 47 لسنة 1978، ثم عاد أخيرا، وألغى القانون الأخير وأصدر قانون الخدمة المدنية. وإلى جانب هذا القانون، توجد قوانين خاصة بالقضاء وهيئات التدريس وأعضاء الرقابة الإدارية ورجال الشرطة والقوات المسلحة الذين يخضعون لنظم خاصة تراعى طبيعة وضعهم العسكرى.. وقد جلست على منصة القضاء مدة قاربت من ال48 عاما ترأست خلالها الدائرة الرابعة بالمحكمة الإدارية العليا، التى تختص بكل ما يتعلق بشئون التأديب، والنتيجة التى يمكننى استخلاصها من هذا التطور تتلخص فى بروز فكرة الضمان فى كل ما يتعلق بالوظيفة العامة، لا سيما فى مجال التأديب. فبعد أن كان القضاء يسجل فى أواخر القرن الماضى أن الإدارة حرة فى توقيع الجزاء المناسب على الموظف، وأنه ليس للموظف أن يلجأ للقضاء شاكياً من هذا الجزاء، إلا إذا وجد نصا صريحا يخوله هذا الحق، فإن الوضع قد انقلب الآن رأسا على عقب من كثرة الإسراف فى ضمانات الموظفين فى مجال التأديب، حتى وصل الأمر إلى خوف الرؤساء من الرقابة القضائية على قرارات الجزاء التى يصدرونها. وقد راودنى ذات الإحساس منذ أن قدر لى أن أرتاد آفاق التأديب، وأنا أحتك بجهات الإدارة عن قرب، وأن أشارك فى عضوية مجالس التأديب، ومن حقى أن أنبه إلى خطورة النظر إلى موضوع التأديب باعتباره موضوعا قانونيا بحتا، لأنه مزيج من الإدارة والقانون معا، وبذلك يمكننى القول أن التأديب جزء لا يتجزأ من نظام الوظيفة العامة، وأن مركز الموظف قبل الدولة هو مركز نظامى، تحدد أوضاعه القوانين واللوائح. الأفعال المؤثمة ومن البديهى أنه لكى تتخذ الإجراءات التأديبية ضد موظف معين، لابد أن ينسب إليه خطأ أو ذنب إدارى يستوجب العقاب، وإذا كان المقرر أنه لا جريمة ولا عقوبة إلا بقانون، فإن هذه القاعدة لا تطبق على الجريمة التأديبية، لأن قانون الخدمة المدنية أو غيره من قوانين نظام العاملين المدنيين بالدولة، لم يسلك مسلك قانون العقوبات والقوانين الجنائية الأخرى، فى حق الأفعال المؤثمة وتحديد أركانها، ونوع العقوبة المقررة لكل منها، فالأفعال المكونة للذنب الإدارى ليست محددة حصرا ونوعا، وإنما مردها بوجه عام إلى الإخلال بواجبات الوظيفة العامة، أو الخروج على مقتضياتها، وكل فعل بالذات لم يحدد له ما يناسبه من جزاء، وإنما يترك تحديد ذلك للسلطة التأديبية بحسب تقديرها لدرجة جسامة الفعل، وما يستأهله من جزاء. وترتيباً على ما تقدم، فإنه مادام المشرع لم يحصر الأفعال الممنوعة على الموظفين والتى تكون جريمة تأديبية، فإن تحديد هذه الأعمال متروك لتقدير جهة الإدارة وبالتالى فإن تكييف الواقعة بما يجعلها من الذنوب المستحقة للعقاب، إنما مرجعها إلى تقدير جهة الإدارة، ومبلغ انضباط هذا التكييف، على الواقعة المنسوبة إلى الموظف، من حيث الخروج على الواجب الوظيفى، أو الإخلال بحسن السير والسلوك. والسلطة التأديبية فى تقديرها للجرائم التأديبية تلتزم ضوابط الوظيفة العامة، بما تتضمنه من حقوق وواجبات، فتقدير ما إذا كان الموظف قد أخطأ خطأ يستوجب الجزاء، إنما يرجع فيه إلى هذه الحقوق والواجبات دون غيرها. والسلطة التأديبية ينبغى عليها أن تلتزم هذا النظام، وتسند قرارها أو قضاءها إليه فى تكييفها للفعل المكون للذنب الإدارى، وفى تقديرها للجزاء الذى يناسبه، فإن هى سارت على السند المتبع فى قانون العقوبات، فلم ترد الفعل المكون للذنب الإدارى إلى الإخلال بواجبات الوظيفة، أو الخروج على مقتضياتها، وإنما استعارت له وصفا جنائيا واردا فى قانون العقوبات، وعنيت بتحديد أركان الفعل على نحو ما حدده هذا القانون للوصف الذى استعارته فإنها إن فعلت ذلك، كان الجزاء المقضى به معيبا، لأنه بنى على خطأ فى الإسناد القانونى. فالسلطة التأديبية بذلك تقوم بعمليتين: الأولى: البت فيما إذا كان الخطأ المنسوب إلى الموظف يعتبر جريمة تأديبية، فإذا ما انتهت من هذه المهمة انتقلت إلى مهمة أخرى، وهى تحديد العقوبة الملائمة للخطأ الثابت قبل الموظف، من بين قائمة العقوبات التى حددها المشرع. ويحكم السلطة المختصة بالتأديب مبدأ الشرعية بمعنى أنه لا تستطيع توقيع عقوبة تأديبية معينة على أحد الموظفين إلا السلطة التى عينها المشرع، فلا يمكن تحت أى ظرف من الظروف توقيع عقوبة تأديبية على أحد الموظفين إلا من قبل السلطة المختصة. ولا تملك السلطة المختصة أن تفوض فى اختصاصها إلا فى حدود القوانين التى تنظم تفويض الاختصاص. كما أنه لا يمكن أن يحل محل السلطة المختصة بالتأديب إلا من عينه المشرع، وتتردد التشريعات بين اتجاهين فى هذا الصدد هما: الاتجاه الرياسى، والاتجاه القضائى. والاتجاه الرياسى يوكل التأديب للإدارة ذاتها، بشكل أو بآخر، بينما يميل الاتجاه الثانى إلى اختصاص الطابع القضائى على عملية التأديب. والحقيقة أن التأديب هذا مظهر للسلطة الرياسية على الموظف، لأن الرئيس الإدارى مسئول عن حسن سير العمل فى المرفق المعهود إليه بإدارته، وعن تحقيق الأهداف المنوط بهذا المرفق تحقيقها، ومن ثمّ فإنه حيث تكون المسئولية يتعين أن توجد السلطة، وإلا استحال على الرئيس الإدارى القيام بأعباء منصبه، ومن هنا يجىء الطابع الإدارى للتأديب ومن هذا المنطلق، تقوم أكبر حجج الداعين إلى الإبقاء على الصيغة الإدارية للتأديب، وإبعاد الطابع القضائى عنه. فالجريمة التأديبية لا تقوم على مجرد الاعتبارات القانونية، بل إنها توزن وتقاس على أساس تقاليد إدارية مستقرة، وتحيط بها اعتبارات لا تكشف عنها النصوص، مثل ظروف العمل، ودرجة وعى من يتعامل معهم الموظف من الجمهور، ودرجة ثقافة الموظف نفسه، ومرتبته فى السلم الإدارى، ومدى الأعباء الملقاة على عاتقه، والتدريب الذى تلقاه، وكل هذه اعتبارات لا يحسن القضاة بحكم تكوينهم، ولبعدهم عن الإدارة، الحكم عليها، ومن ثمّ فيجب أن يترك تقدير ذلك كله للسلطات الإدارية التى يتبعها الموظف المخطئ. فضلا عن أن انتزاع سلطة التأديب من يد الرئيس، وقصر حقه على مجرد الاتهام يؤدى به إلى التردد فى استخدام سلطة التأديب لأن هيبته سوف تهتز إذا ما وجه اتهاما إلى أحد مرؤوسيه واتخذ ضده الإجراءات التأديبية التى قد تصل إلى حد وقفه عن العمل، ثم برئ الموظف أمام جهة التأديب المستقلة عن ذلك الرئيس. ولا جدال أن فاعلية التأديب تستوجب أن يتسم بالحسم والسرعة، وأن يتم فى ذات البيئة التى وقع فيها الخطأ، ليحقق أثره على أفضل نحو ممكن، سواء بالنسبة إلى الموظف المخطئ، أو بالنسبة إلى غيره، ممن يعملون معه، فإذا عهد بالتأديب إلى جهة بعيدة عن الإدارة فإن كل تلك المعانى تهتز، وتفقد قيمتها، لأن التأديب سوف يتأخر ويجىء بعد أن تكون قد زالت آثار الخطأ، فإذا وقعت العقوبة فإنها سوف تفقد فاعليتها. والتأديب لا يستهدف مجرد العقاب، وغرضه الأساسى ينحصر فى تمكين المرفق من أداء رسالته، ومن ثمّ فإن الإدارة حين تعاقب أحد الموظفين فإنها تضع فى اعتبارها الإحاطة أولا بالظروف الذى تم فيه الخطأ، والذى مكن الموظف من ارتكابه، أو على الأقل سهل له ارتكابه. وهذه الغاية للحقيقة تمثل أهم ما فى التأديب، لأن معالجة أوجه النقص فى الجهاز الإدارى، أهم كثيرا من عقاب الموظفين المخطئين. فالتنظيم السليم للعمل، يقلل كثيرا من فرص الخطأ ويحمى الموظف نفسه من التعرض لما يوجب التأديب، وإذ تمت الإجراءات التأديبية بعيدا عن الإدارة، واقتصر دورها على الاتهام، فإن المعنى الذى أشرت إليه سوف يتوارى خلف الطابع العقابى للتأديب. ولذات الحكمة السابقة، فإن المسلم به أن السلطة الإدارية تتمتع بسلطة واسعة فى التأديب، بمعنى أنها تستطيع أن تصرف النظر عنه، إذا قدرت وفقا لظروف الموظف المخطئ أو لظروف العمل بالمرفق الذى وقع فيه الخطأ أن التأديب قد يؤدى إلى عكس المقصود منه، فى حين أنه لو عهد بالتأديب إلى جهة خارج الإدارة، لا سيما القضاء، فإن سلطة التقدير سوف تختفى تماما، لأن الأمر سوف يركز على الخطأ فى ذاته، وسوف لا تنال الظروف السابقة ما هى جديرة به من اهتمام. فى مقابل الاعتبارات السابقة ظهر اتجاه آخر يكسب كل يوم أرضا جديدة، وهو منطق الضمان لما يحققه من دواعى الأمن والطمأنينة للموظفين، ولو كان ذلك على حساب الفاعلية فى العمل الإدارى، لهذا شكلت محاكم تأديبية من عناصر قضائية بحتة. والتزام الطابع الإدارى فى التأديب لا يعنى استبعاد الإدارة كلية من هذا المجال، ووضعه فى يد القضاء إنما يقصد به مجرد تحقيق الضمان والأمن للموظفين، وعلى هذا الأساس فإن السلطة الإدارية تمارس جانبا كبيرا من سلطة التأديب فهى التى تتخذ الإجراءات التمهيدية والمؤقتة ضده، وأهمها الوقف مؤقتا عن العمل لصالح التحقيق وتحتفظ السلطات الرياسية فى جميع الحالات بتوقيع بعض العقوبات بمقتضى قرارات منها. ومن كثرة الأحكام التى صدرت من المحاكم التأديبية مستندة إلى فكرة الضمان فإن بعض الفقهاء وعلماء الإدارة دقوا أجراس الخطر من أن الإسراف فى ضمانات الموظفين فى مجال التأديب قد عطل استعمال هذا الحق!! وتبدو هذه الملاحظة محل اعتبار ذلك أن الرؤساء تهيبوا تحريك إجراءات التأديب قبل مرؤوسيهم لعدة اعتبارات، أولها: خوف الرئيس من إثارة المتاعب فى نطاق الإدارة التى يرأسها، ثانيها: خوف الرؤساء من المنظمات النقابية، ثالثها: خوف الرؤساء من الرقابة القضائية والتى قد تنتهى بعد سنتين أو ثلاث إلى إلغاء الجزاء!! من هنا أقول إن الإسراف فى حماية الموظف العام أدى إلى موت النظام، واغتيال طاعة المرؤوس لرئيسه، وهو أمر أدى إلى تدهور الإدارة باستمرار، لذلك أنبه إلى أن موضوع التأديب ليس موضوعا قانونيا بحتا، بل أنه مزيج من الإدارة والقانون معا، بل هو من الموضوعات التى يتعين فيها إقامة توازن دقيق بين مقتضيات الضمان وبين فاعلية الإدارة. وإذا كان بعض المتطرفين من أدعياء الإدارة العامة قد أهملوا الاعتبارات القانونية كلية، بل وتطرف بعضهم إلى درجة اعتبار مراعاة القانون عنصرا معوقا لفاعلية الإدارية، فإن رجل القضاء واسع الأفق، يضع فى اعتباره جميع العناصر المؤدية لحسن التنظيم، والكفيلة بتحقيق الأهداف المرجوة. وقد يتساءل البعض: ما رسالة التأديب فى نظام من النظم، هل تقتصر على ردع الموظف المخطئ أى مجرد العقاب؟ فلو كان التأديب كذلك لأضحى سيفا مسلطا على رؤوس الموظفين، ولكان موضوعا قانونيا صرفا، إذ يكفى التأكد من أن الموظف قد أخطأ فعلا لتوقيع القصاص عليه. والمعروف أن منطق قانون العقوبات قديما كان يقوم على الاكتفاء بالتأكد من وجود الفعل وأن الجانى قد ارتكبه، ولكن فلسفة هذا القانون تطورت، ولم يعد ينظر إلى المجرم اليوم على أنه عضو فاسد يجب بتره من المجتمع، تأمينا للمجتمع من أخطاره، وإنما صار ينظر إليه باعتباره مريضا، بل وضحية من ضحايا المجمع، فى كثير من الأحيان، يجب العمل على علاجه، وإعادة تأهيله، ورده إلى المجتمع مرة أخرى مواطنا صالحا. فإذا كان هذا المعنى صحيحا فى ظل الفلسفة الحديثة لقانون العقوبات القائم على فكرة العقاب، أساسا فإنه يصدق من باب أولى بالنسبة إلى النظام التأديبى، الذى لا يستهدف العقاب فى ذاته بل ضمان سير المرفق بانتظام واطراد. وبالتالى فإن النظام التأديبى السليم لا يكتفى بمجرد التأكد من قيام المخالفة التأديبية لعقاب مرتكبها، وإنما يتعدى ذلك إلى بحث الأسباب التى جعلت ارتكاب المخالفة أمرا ممكنا فقد يكون ذلك راجعا إلى سوء فى تنظيم المرفق الذى يعمل به الموظف، بحيث يؤدى عمله وهو لا يدرى حدود هذا العمل، وما يضيفه عليه من حقوق، وما يفرضه عليه من واجبات، وقد يكون مرجع الخطأ إلى كثرة العمل أو إلى ارتباك فى الظروف العائلية للموظف. فإذا كان رب العمل لا يعنيه فى النظام الرأسمالى إلا أن يحصل على مقابل الأجر الذى يدفعه إلى عماله، بحيث لا تعنيه ظروفهم الخاصة، فإن هذا ليس هو الحال فى ظل النظم المعاصرة، التى تعمل على تيسير رحلة الحياة لمواطنيها وكفالة الأمن والطمأنينة بالنسبة إليهم، هذه الاعتبارات بدأت تظهر فى النظم التأديبية وبدأت قائمة العقوبات التأديبية تتغير، وأخذت الاعتبارات الإنسانية تترك آثارها واضحة ورغم ذلك فإننى أعترف ان كانت رواسب الفكر القديم ما تزال ملموسة فإن التطور مازال فى بدايته، هذا التحول ليس عمل الفقه ولا القضاء إنما هو عمل المشرع.. وإلى لقاء.