في المقال السابق حاولت أن أناقش فكرة الإبداع التي سلطت عليها الأضواء مؤخراً (وفي الواقع سلطت عليها القاذورات والبذاءات من قبل الذين يريدون أن يرجعوا بنا للعصور الوسطي)، بينما الإبداع من أولي تجلياته أن يناقشنا هو فيطرح الأسئلة حول حياتنا لا العكس.يناقشنا في كل شيء من أمورنا القديمة والحديثة. نعرف أن (الحاجة أم الاختراع)، وكل اختراع هو بالضرورة ضرب من الإبداع. فهل نحن في (حاجة) إلي أي شيء لا سمح الله؟! وإذا تذكرنا أن (الظلم لا يصنع ثورة ولكن الإحساس بالظلم هو الذي يصنع الثورة) فلابد أن نتساءل: هل نحن فعلاً نشعر بالظلم؟!.. لأول وهلة قد يبدو السؤال غريباً.. فكل فرد منا اليوم ثائر، لا يعجبه واقعه علي المستوي الشخصي أو مستوي مجتمعه كله، وينطبق هذا علي كل بلاد الربيع العربي (حسب المصطلح الذي ابتدعه الغرب عنا!).. طبعاً نشعر بالحاجة إلي أشياء كثيرة لا تحصي، منها الحاجات الأساسية، الحاجة إلي غذاء ومسكن ودواء وموبايل وآي باد وسيارة ولعب أطفال وياميش رمضان ونشعر بظلم فظيع.. بشع.. مريع، فكلنا لا نأخذ حقنا في المرتبات والمكافآت والمناصب ويري كل منا أنه أحق من كل الآخرين، ثم نحن نعرف الحل وهو سريع. لكننا لا نفهم لماذا لا نعمل به وفوراً, خاصة بعد ثورة 25 يناير التي اختفي الشباب الذين صنعوها، والحل الذي نعرفه أن توزع علينا الحكومة الأموال والوظائف والمساكن وتعالجنا علي نفقة الدولة وتتكفل بتزويجنا وتزويج أطفال المستقبل السعيد. بإذن الله وطبعاً علي رأس هذه الأولويات, قهر العدو الإسرائيلي وطرده وإعادة الفلسطينيين إلي بلادهم أو إلي سيناء, وجعل القدس عاصمة للخلافة الإسلامية, وليس بعيداً أبداً علي الله أن يبعث بيننا صلاح الدين الأيوبي، وهي حاجات ممكن تلبيتها ببساطة, فقد بدأت البشائر بقرض من البنك الدولي, وقروض من كل بلاد العالم التي تتنافس لإقراضنا ومساعدتنا لنستورد منها كل ما نحتاجه فتزدهر البلاد وأحوال العباد وينقشع الظلم، فما حاجتنا إذن إلي الإبداع لنخترع أي شيء؟.. خاصة ونحن نعلم أننا لن نخترع العجلة, فهي مخترعة منذ وقت طويل.. ربما يفتي أحد المتحذلقين أننا يمكن أن نعيد صناعة العجلة والقطارات والطائرات والصواريخ بأنفسنا.. ولكن هذا جهد ضائع, فالآخر الأجنبي بضاعته حاضرة فلندعه يبدع ونستورد نحن كل منتجاته, عدا أفكاره طبعاً وعلي رأسها فكرة الإبداع لأن كل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار، فلندعهم هم يدخلون النار، والمسئولون عندنا سعداء أنهم يشترون لنا هذا الإنتاج وينهبون بعضه، والقادرون علي شرائه سعداء فلا يوجد عندهم مشكلة.. أما غير القادر علي دفع الثمن فالله معه ولا توجد دولة في العالم تخلو من الفقراء، ثم أليس الله هو مقسم الأرزاق؟ لا يحدث هذا في مصر وحدها بل فيما نسميه بالوطن العربي وطني حبيبي الوطن الأكبر. ولا خوف علينا من الحروب, فقد أثبتت وقائع الأيام القليلة الماضية أنه ليس بالجيوش وحدها تكسب المعارك, انظر إلي معاركنا ضد السفارات الأمريكية في بلاد العالم الإسلامي (عدا السعودية)!. وكيف انتصرنا عليهم وأسقطنا أعلامهم وأحرقناها؟.. أليس هذا قمة الإبداع؟.. ألم نستخدم ضدهم الأسلحة التي اشتريناها منهم, سواء الجماهير الثائرة أو قوات الأمن المركزي التي استخدمت فيها القنابل المسيلة للدموع لفضهم رحمة بأمريكا؟.. ألم نستخدم هذه الأسلحة من مصفحات وبنادق ورصاص مطاطي ضد أعدائنا من المصريين في الداخل الذين تحججوا بطلب الحرية المطلقة والديمقراطية والعدالة، بينما هم في الحقيقة يحاولون نشر فكرة أن الإبداع ليس له شروط أو أن شرطه الوحيد ألا تكون له حدود، أي تكون له حرية مطلقة في الرأي والتفكير والخلق والأخذ بالعلم في كل شيء, وهي كما تري تخالف الدعائم الراسخة لتراثنا التليد كما يراه علماء الدين عندنا في القرن الواحد والعشرين. تبقي حاجة واحدة تنقصنا وهي أن نستنسخ صلاح الدين الأيوبي، ولكن والحمد لله بيننا ألوف منهم في المساجد والزوايا والفضائيات داخل وخارج مصر ولكن نظام الشوري الذي ابتدعناه وصدرناه للعالم كفيل بحل هذه المشكلة قريبا جداً, وحتي ولو وقع الإجماع علي رجل من أم أمريكية الجنسية!