«اسلمي يا مصر إنني الفدا» بهذه الكلمات بدأ الرافعي نشيده «اسلمي يا مصر»( )، الذي يُعدُّ تعبيرًا صادقًا عما يدور في قلب كل مصريٍّ تجاه مصر الإسلام والعروبة والتاريخ. ولم لا؟ وهي مصر الشامخة الأبيَّة، التي استعصتْ على الطغاة، وأذَلَّتْ أنوف المتكبرين، وحطمتْ مطامعهم الدنيئة. هكذا كانت ولا تزال مصر دائمًا. حاول الانجليز، وحاول كرومر، وعملوا على تغيير هويتها، ثم خرج الانجليز أذلة وهم صاغرون، وبقيت مصر شامخة. وجاء الانجليز والفرنسيون والصهاينة في عدوان ثلاثي غاشم على بورسعيد الباسلة، فعادوا يجرون أذيال خيبتهم، وبقيتْ مصر شامخة. كما جاءت فرنسا بمطابعها، وعلومها وأبحاثها، فخرجتْ سريعًا، وبقيت مصر شامخة. بل مكث العبيديون الفاطميون الشيعيون عشرات السنين، فرضوا تغيير الهوية الإسلامية السُّنِّية على مصر بالقوة، ثم جاءتْ لحظةُ مصر، فخرج الفاطميون الشيعيون، وبقيتْ مصر السُّنِّية شامخة، لم تتغير ولم تتبدل. هذه هي مصر. مؤدبة التتار، ودار ابن لقمان بالمنصورة، ومعركة البرلس بكفرالشيخ، والسويس العظيمة، والعاشر من رمضان، وغيرها كثير كثير. هذه هي مصر. صخرةٌ تتحطم عليها طموحات الطغاة الحاقدين، وتنكسر أمامها هامات المتكبرين الجاحدين. تتعب لكن لا تموت، تهدأ لكن لا تستكين. ولم لا؟ وهي أرض العلم والحضارة والتاريخ. مصر الليث بن سعد، والشافعي ، وصلاح الدين الأيوبي ، والرافعي ، وآل شاكر، وغيرهم كثير كثير. بل لا تقتصر مصر على المعروفين من علمائها النجباء، فلدينا عشرات بل ألوف العقول المبدعة، في شتى مجالات الحياة، نعرفهم في كل مكان فيها، نعرفهم في سهولها ووديانها، في مصانعها ومزارعها، في متاجرها وأسواقها، في طرقاتها، في كل شيءٍ نعرفهم. ومَن لا يعرف مصر فليُفتِّش عنها وعن عقولها في كل مجالات الحياة، وفي كل دول الدنيا، في الفضاء والطب والهندسة والصناعة والتجارة والزراعة وفي كل شيءٍ. وما مِن يوم يمرُّ على مصر إلا وتطرب أسماعنا باختراع جديدٍ على يد شابٍّ من شبابها هنا وهناك، ويستمر الشباب العظيم في اختراعاته، لا يعبأ بتجاهل الناس له، لا يكترث لو لم يصل إلى تسجيل اختراعه ونسبته لنفسه، فهو لا يُفكر كثيرا في مجده الشخصي، ولا يُرهق نفسه ليخترع؛ إِذ ليس الإبداع والاختراع شيئًا صعبًا بعيد المنال عنه، إنما هو طبيعة فيه، ومَن لا يصدِّق فلينظر حوله، وليشاهد بنفسه، وليُمَتِّع سمعه وبصره برؤية مصر وأهلها. كم مِن مرَّةٍ تعطب سياراتنا فيصلحها لنا شابٌّ ربما لم يبلغ العشرين بعدُ؛ لكنه حين يصلحها يُبدع في مهنته أيما إبداع، فتراه يُعدِّل ويغيِّر في كل شيءٍ، حتى تصبح السيارة أنموذجًا جديدًا غير ما كانت عليه، وهو الذي لم يحصل على حظٍّ وافرٍ مِن الشهادات العلمية، ألم يشاهد القراء هذا بأنفسهم؟ وفي أماكن شبه منسية؟ وعلى يد رجالٍ لا تعرفهم الأضواء؟. وأمثلة هؤلاء في كافة مجالات حياتنا كثير كثير. إنها مصر التي حطمتْ كبرياء يهود بصيحة الله أكبر. إنها مصر التي هزأتْ بخط بارليف فلم تعره اهتمامها، كونها لا تلتفت لتوافه الأمور، فلم تجده يستحق أكثر مِن صب الماء عليه لينهار، فماء مصر يعرف مهمّته هو الآخر، كما يحرق هواء مصر كلّ معتدٍ أثيم. إنها مصر السُّنِّية التي بنى الشيعة فيها الأزهر ليكون منارة تشيُّعٍ، فأبتْ حجارة مصر أن تُبدِّل دينها، أو أنْ تُظْهِرَ في الأرض الفساد، فلانت حجارتنا للبناء، حتى إذا اكتمل صدحتْ بالإسلام والسُّنَّةِ. لم تخن حجارتنا بلادها، يا من تخونون بلادكم. أسمعتم بمثل هذا في تاريخ الناس إلا في مصر المحروسة؟. إنها مصر التي يطرب لسماع أخبارها كل عربيٍّ وكل مسلم، يحبها الجميع، وتحب الجميع، أبوابها مفتوحة، آمنة مطمئنة، مهما يشاع ويقال عن البلطجة، ألم يقم البلطجية بحماية مصر أيام ثورتها ولجانها الشعبية جنبًا إلى جنبٍ مع شرفائها الأحرار؟!. نعم؛ إنها مصر حين تحتاج لأبنائها، فيبذلون أرواحهم في سبيلها، ينسون آثامهم وذنوبهم الثقيلة، يتوبون، يتطهرون، حين تحتاجهم مصر، فإذا استغنتْ واطمأنتْ فنأسف أن يعود بعضهم إلى ما كان عليه، لكنها مصر التي تُطهِّر أولادها وقت حاجتها إليهم، تدعوهم فيستجيبون. ولا تعترض بأفعال فلان وفلان ممَّن نهبوها وسرقوها وقطعوا عليها طريقها، ورَوَّعوا أولادها؛ فإنما يعيش اللصوص بيننا بأجسادهم، وأرواحهم وأفكارهم وقدوتهم هناك خارج مصر، فسُحْقًا لما يفعلون. إنها مصر وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم، حين قال لأصحابه رضوان الله عليهم: «إِنَّكُمْ سَتَفْتَحُونَ أَرْضًا يُذْكَرُ فِيهَا الْقِيرَاطُ، فَاسْتَوْصُوا بِأَهْلِهَا خَيْرًا، فَإِنَّ لَهُمْ ذِمَّةً وَرَحِمًا». رواه مسلم (2543). مصر الآمنة المطمئنة على مدار التاريخ، «فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ آَوَى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ وَقَالَ ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شَاءَ اللهُ آمِنِينَ» [يوسف:99]. مصر سليلة الكرم التي أطعمت الدنيا، وواستها في أزمة الجوع التي عصفتْ بها، فجاء الناس من كل صوب وحدب «فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ قَالُوا يَا أَيُّهَا العَزِيزُ مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُزْجَاةٍ فَأَوْفِ لَنَا الكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا إِنَّ اللهَ يَجْزِي المُتَصَدِّقِينَ» [يوسف:88]. فالكرم شيمتها، «وَقَالَ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِنْ مِصْرَ لِامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ وَاللهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ» [يوسف:21]. إنها مصر النيل والزراعة، «وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الأَرْضُ مِنْ بَقْلِهَا وَقِثَّائِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُوا مِصْرًا فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ» [البقرة:61]. تذكرتُ هذا وغيره وأنا أتابع ما يجري وما يحاك لها بليل، ولستُ بشاكٍّ في عبورها أزماتها كلها، وانتصارها، فشمسها أبدًا لا تغيب، ودع أعداء مصر يُنفقون ويمكرون، فسيحرقهم مكرهم، وتنقلب عليهم أموالهم حسرةً. يقول سبحانه وتعالى: «إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ» [الأنفال:36]. فدعهم يمكرون فسيُغْلَبون. ودعهم يُنفقون فستكون عليهم حسرةً. وتمضي مصر في طريقها شامخة حرَّة عزيزةً بإسلامها، قوية بإيمانها، فاسلمي يا مصر إنني الفدا.