وللأسف فإن بعض الثورات في منطقة الشرق الأوسط تحولت إلي حركة طائفية سياسية، بل بلغ بها الفكر الطائفي أو الديني، إن وضعت ذلك في دستورها بأن الدولة دينها كذا وطائفتها كذا، وهذا تحول ليس لمصلحة الدولة، بل لمصلحة الطائفة التي تنتهي بأن تكون لمصلحة الفرد، وهذا هو أكبر مزالق الحركة الثورية، بل أكبر كوارثها، فعندما رفع ماوتسي تونج مفهوم طبقة البروليتاريا، كما رفعه ستالين، تحولت الدولة ليس لمصلحة الطبقة بل لمصلحة الزعيم الأوحد، وعانت طبقة البروليتاريا كما عاني المجتمع بأسره. في حين أن المفهوم الأعمق للثورة هو أنها حركة تغيير جذري في المجتمع لمصلحة المجتمع بكافة طوائفه وطبقاته وقواه، ولعل ذلك هو الممارسة العملية لكثير من تجارب الدول الرأسمالية، بل ممارسة دولة نموذج إلي حد كبير في العالم الثالث، وهي الهند مقارنة بنموذج دولة باكستان التي تتشابه إلي حد كبير من الخصائص، ماعدا مفهوم الدين كأساس لبناء الدولة، والأنكي عندما يتحول مفهوم الدين لمصلحة نخبة معينة، كما حدث في عهد ضياء الحق، وما أطلق عليه أسلمة المجتمع وقوانينه، والحقيقة أن ذلك كان أول بذرة من بذور الانحدار في المجتمع الباكستاني ليس بسبب الإسلام كدين وإنما بسبب فهم رجال الدين أو بعضهم لمفهومه وتسخير رجال السياسة ذلك لمصلحتهم، وهذا ما يحدث في دولة مجاورة لمنطقة الخليج العربي تحولت ثورتها العظيمة إلي مصلحة وفكر وقرار فرد واحد، وأخذت الثورة تأكل أبناءها لمصلحة طموحات سياسية ورغبة في الهيمنة علي الآخر في داخل المجتمع وفي المحيط الإقليمي. نخلص مما سبق إلي الثورات أو الانتفاضات الراهنة، وبخاصة في مصر وبوجه عام في بعض الدول العربية في حاجة للتفكير مليا ودراسة التجارب الثورية وأخذ العبر من ممارساتها الخاطئة والاستفادة من ممارساتها الصحيحة. إن أسوأ نماذج الثورات في تقديري هو ما يحدث في ليبيا، فالزعيم الليبي معمر القذافي يظل في السلطة 42 عاماً، ويبدد ثروات المجتمع الطبيعية علي أحلامه وفكره التوسعي من مساندة حركة في الفلبين، إلي حركة في ايرلندا، إلي صراعات داخل الدول الأفريقية، والشعب الليبي يعاني من الفقر والتخلف - رغم ثرواته الكثيرة ومحدودية سكانه - كما يعاني من القمع، ويتصور القائد الثوري أنه مبعوث العناية الإلهية، وأنه منقذ البشرية، وهذا واضح من أقواله المذاعة عندما فوجئ بثورة ضده لم يصدق. النموذج المصري الراهن في ثورة 25 يناير، أكثر نقاء، وأكثر شفافية، وأكثر اتساعاً في ضم فئات المجتمع بأسرها، ولقد لفت النظر مدي عمق فكر الشباب، ورحابة صدورهم في ميدان التحرير، عندما اجتمع الهلال والصليب معاً، وهما أبناء المجتمع، وقام المسلمون بالصلاة، وحافظ المسيحيون علي النظام أثناء ذلك، وتبادل الطرفان الأدوار، فقام المسيحيون بأداء قداس يوم الأحد، وحافظ المسلمون علي النظام، ولم يثر أي من الطرفين اختلافاته الدينية، ونظرته للآخر، لأن شباب الإنترنت يختلفون عن علماء الدين الذي يجترون الكتب القديمة، ويعيشون في الماضي، وليس المستقبل، ويكررون المفاهيم اللاهوتية بالخلاف بدلاً من المفاهيم القائمة علي المواطنة. وحسناً فعل المسلمون والمسيحيون بعدم الرجوع للمرجعيات التقليدية في الأزهر أو الكنيسة، ورغم أن أسوأ مشهد كان عندما سعي أحد رجال الدين لاختطاف الثورة من ميدان التحرير، وبعد قليل من الصبر بعد صلاة الجمعة، وصلاة الغائب، وصلاة الجنازة، سئم المتظاهرون من هذه الأساليب التي تؤدي لبث الفرقة، فهذه كلها صلوات ليس مكانها موقعاً سياسياً، وإنما مكان ديني مثل المسجد، لأن مؤدي ذلك عزل المسيحيين، فصاح أحد المتظاهرين تحيا مصر، وتردد الهتاف في جنبات ميدان التحرير، وتم تجاهل محاولة اختطاف الثورة، بل وإحباط ذلك، فرجال الدين مع حبنا وتقديرنا لهم، مهمتهم هي الدين وليس السياسة، والمجتمع المصري ليس مجتمعاً كهنوتياً، ومرجعيته الوطنية لها الأولوية علي مرجعياته الدينية، فالدين لله والوطن للمجتمع، وعندما يستلهم السياسي أو الثائر فكره من رجل الدين، فإن الكارثة سوف تحل علي الجميع. ولكن الثورة المصرية في 25 يناير، واجهت تحديات مندسة من قوي وأحزاب هامشية، وكان لها بريقها في الماضي، ولكنها لا قواعد لها في الحاضر، ودفعت القوي الثورية للمطالبة بالهدم الفوري والبناء الفوري، من حكومة انتقالية، وهذا هو التناقض الجوهري، فالهدم الفوري يؤدي إلي كوارث والبناء الفوري لا يمكن تحقيقه، ولعلنا نتذكر المقولة الفلسفية للمفكر الألماني فردريك هيجل حول نظرية المتناقضات أو الديالكتيك الفكرة ونقيضها، ثم التوليف الذي يخرج من حصيلة تفاعل الفكرتين، هذا الجديد يخرج من أحشاء القديم، وأحشاء الثوري النقيض له، وهو خروج ليس سهلاً، ومن ثم ضرورة المرحلة الانتقالية، وهي ليس مثالية، ولكنها ضرورية لحدوث الانتقال السلس. ولهذا فإن النقيض الذي قام به بخبث بول بريمر الحاكم العسكري للعراق، عندما ألغي كافة مؤسسات الدولة أو ما أصبح يطلق عليه إسقاط النظام العراقي بأسره، فحل الجيش والبوليس والإدارة والوزارات، وأصبحت العراق في حالة الفوضي التي تحدث عنها عالم السياسة والفيلسوف توماس هوبز في كتابة المشهور »التنين leviathan« والتي أدت لقيام الحكم المطلق كبديل الفوضي، ولكن الحكم علي أساس العقد الاجتماعي الذي أدي إلي مراحل للتطور والانتقال للديمقراطية عبر السنين من التطور التدريجي. الذي حدث في العراق أنه تحول لدولة طوائف متفككة، وظهرت فيه أديان وعقائد مثل الفسيفساء، ومن ثم فقد المجتمع تماسكه وتحول من الخضوع لنظام بعثي ديكتاتوري بقيادة صدام، لنظام طائفي يحكمه آخرون من وراء ستار، وانقسام عرقي بين العرب والأكراد والتركمان، وطائفي ديني بين السنة والشيعة، وغير ذلك من الطوائف الدينية والعرقية. التجربة الإسلامية الصحيحة في عهد صاحب الدعوة محمد بن عبدالله »ص« تقوم علي ثلاث ركائز: الأولي: التآخي بين المهاجرين والأنصار، وعندما نسي بعضهم هذا المفهوم، وتشاجر أحد المهاجرين مع أحد الانصار، ووصل ذلك للنبي صاح فيهم قائلاً »أجاهلية وأنا بين ظهرانيكم« بمعني من دعا للطائفية أو الفرقة أو القبيلة أو العشيرة، إنما هي دعوة جاهلية. الثانية: إعلاء مفهوم المواطنة علي مفهوم الدين، ولعل »صحيفة المدينة« التي ركزت علي مفهوم المواطنة للدولة، وليس للدين، وعن الحقوق المتساوية لكافة الأفراد، وكان في المدينة يهود، فأكدت الصحيفة مفهوم المساواة الكاملة في الحقوق والواجبات بين الجميع. الثالثة: مفهوم التسامح والاعتدال، هذا المفهوم وضح في واقعة فتح مكة عندما صفح النبي عن خصومه ومعارضيه، ونسي كل ما فعلوه من اضطهاد له، وتعذيب لأصحابه، وقال قولته المشهورة »ماذا تظنون أني فاعل بكم« فقالوا بخبث أو بخوف، أخ كريم وابن أخ كريم، فقال بروح إسلامية صادقة »أذهبوا فأنتم الطلقاء« ولم تكن لدي محمد بن عبدالله »ص« شهود الانتقام، كما حدث في ثورات معاصرة سياسية أو دينية انتقمت وأعدمت خصومها. إن الاسلام المتسامح جعل عام فتح مكة، هو عام الأفواج التي تعتنق الإسلام، ولذلك أكدت سورة النصر »إذا جاء نصر الله والفتح ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجا فسبح بحمد ربك واستغفره إنه كان توابا« سورة النصر الآيات 1-3، ولم تقل انتقم من خصومك وأعدمهم، وإنما دعت إلي مفهوم التسامح والاستغفار والتوبة. وحقا قال السيد المسيح عيسي بن مريم لتلاميذه عندما استاءوا واعترضوا علي استقباله لمريم المجدولية، وكانت من بيوت الدعارة فقال لهم »من كان منكم بلا خطيئة فليرمها بحجر« ولهذا قال المثل العربي: »الصفح من شيم الكرام«. *باحث في الدراسات الإستراتيجية والدولية