من بين التحولات والتغيرات العديدة، التي بدأت في القرن العشرين المنصرم وتسارعت مع نهايته، تغاير مفهوم الدولة، إذ شهد هذا المفهوم تغايراً عما تصوره الفيلسوف أرنست هيغل ذات يوم، فلم تعد الدولة أعلى تجليات العقل البشري بحسب ما اعتقده، لجهة أنها لم تعد تعقلاً للخير العام، وصيانة لمصالح عموم الناس الأساسية. أولى الهزات التي تعرض لها المفهوم الهيغلي للدولة حملته الثورات الاشتراكية التي اعتبر فلاسفتها ومنظروها الدولة مرهونة بالطبقة التي تشيدها، بوصفها تمثل مصالح طبقية معينة، وعليه تصوروا أن دولة العمال أو الشغيلة (ويلحق بهم الفلاحون أحياناً) يمكنها أن تحلّ محل الدولة البورجوازية والارستقراطية. في وقت بقيت فيه الأفكار الليبيرالية التقليدية تراهن على حيادية الدولة لصالح نظام الغالبية الديموقراطية الحافظ للتوازن الاقتصادي والاجتماعي، وصوناً لقيم العدالة والصالح العام. لكن الأزمات الكبرى التي تعرضت لها النظم الرأسمالية جعلت الليبرالية التي اعتمدت على حرية المبادرة الفردية تتعلم الدرس من عدوها النظام الاشتراكي، فأقرت بوجوب التوزان الاجتماعي، ونشأت على خلفية هذه الإفادة مفهوم «دولة الرفاه» بعد أزمة عام 1928. لكن الدولة التي بنتها الاشتراكيات البروليتارية تحولت إلى نمط من الدولة الشمولية المهيمنة، فحلّ القمع والجمود، الأمر الذي أجبرها على السير في خطى حثيثة نحو تحرير السوق، وفتح باب الحريات مع بداية ثمانينات القرن العشرين المنصرم. وتزامن ذلك مع بداية صعود أفكار أصحاب «الطريق الثالث» على خلفية فلسفية اجتماعية تأخذ في الحسبان التطور التاريخي لدور الدولة، وتنهض على الموازنة بين نموذجي الاقتصاد: الاقتصاد التحكمي التخطيطي أو المقيد، والاقتصاد المنفلت من عقاله لمصلحة السوق الحر. وعرف نموذج الدولة تحولاً في اتجاه تخلي الليبيرالية عن فرديتها الجامحة لمصلحة تدخل الدولة وفرضها ضوابط وقواعد تنظم عمل السوق. وفي الوقت نفسه أعلن فلاسفة ما بعد الحداثة بداية عالم النهايات، خصوصاً نهاية عالم المركزة والاستقطاب لمصلحة التبعثر والاختلاف. وجاء سقوط الاتحاد السوفياتي تتويجاً لنهاية السرديات الكبرى والنظريات الغائية، فيما صورت الليبيرالية الجديدة ذلك السقوط انتصاراً لنموذجها المبشر بالعالم السعيد، الخالي من الويلات والحروب. لكن الأمر كان بعكس ذلك، نظراً الى أنها تحمل نزوعاً يجنح إلى تخلي الدولة عن مجمل أدوارها الحديثة التي تخص الصالح العام. وإن كان النموذج الاشتراكي دخل باب المنافسة الشديدة للنموذج الرأسمالي، خصوصاً بعد الحرب العالمية الثانية، فإنه دفع بالرأسمالية إلى الأخذ بنموذج دولة الرفاه والحريات. لكن انهيار النموذج الاشتراكي جعلها تتخلى عن مفهوم وتحققات العدالة الاجتماعية، وبالتالي جرى التراجع عن الكثير من المكاسب التي حققتها نضالات العمال والفئات الوسطى، ولم تَعُدْ الدولة الليبرالية الجديدة تولي أية أهمية لحفظ التوازن الاجتماعي، ولا لضمان الحاجات الأساسية أو مكافحة الفقر والبطالة، في مقابل تركيزها على الحرية التي أضحت سمة تسم نظماً ادعت تشكيلها لما عُرف ب»العالم الحر» الذي تزعمته الولاياتالمتحدة. ومع وصول المحافظين الجدد إلى قيادة «العالم الحر»، أو «العالم السعيد» بحسب التعبير الساخر لجاك دريدا، فإن نموذج الدولة تعرض لتغاير خطير، اذ اعتمد هؤلاء المتشددون على رؤية تصغر أدوار الدولة وتمثيلاتها، كونهم ينظرون إلى دولة الرعاية على أنها مجرد جمعية خيرية، إذ لا ضرورة أبداً للإنفاق على الصالح العام، ولا ضرورة كذلك لتعديل الاختلال الاجتماعي أو الاقتصادي الحاصل في المجتمعات الرأسمالية. وقد نظر المحافظون الجدد إلى المال الفيدرالي بوصفه مالاً مهدوراً ولا يستفيدُ منه إلاّ العامة والفقراء، وهذا يناقض حرصهم على إفادة من يمثلونهم من أرباب الشركات العملاقة وأرباب المال والمعلوماتية. وأظهر إعصار «كاترينا» مدى تخليهم عن الفقراء وعن الأقليات العرقية، ومدى عجزهم عن إغاثة المنكوبين من آثار هذا الإعصار المدمر، وكل ذلك يعود إلى فلسفتهم الخاصة بالدولة ونظرتهم الى الاقتصاد السوق التي تصل درجة عبادة قوانين السوق، والتي تفترض أن قوانينه يمكنها أن تنظم نفسها من دون أي تدخل دولتي، وبالتالي فهم يرفضون تخصيص أية موارد للشأن الاجتماعي العام أو للضمان الاجتماعي، كما يرفضون ممارسة الرقابة على الشركات الضخمة، ولا يعيرون أية أهمية للعاملين وللمستثمرين الصغار، ولا لذوي الحاجات الخاصة والأطفال والنساء ومرضى الإيدز، وغير ذلك. أما في ما يخص الأقلمة العربية لمفهوم الدولة فقد عجزت النخب الحاكمة عن تحقيق تعينات الدولة الحديثة، أي عجزت عن أن تكون الدولة دولة مجموع مواطنيها، إضافة إلى فشلها في التنمية التي رفعت شعارات طانة بخصوصها. وفي المقابل استولت النخب الحاكمة على الدولة، وتحولت إلى سلطات لم تأخذ من أدوار الدولة سوى الجانب الأمني من دون أي اعتبار للمفاهيم الأخرى كالمواطنة والديموقراطية والتنمية والتطور الاقتصادي أو الاجتماعي. وكان أخذها للمفهوم الأمني مرتبطاً بمصالح حزب أو فئة أو جماعة أو أقلية عرقية أو مذهبية تريد أن تركّب مفهوم تحقيق الأمن من أجل ضبط حركة المجتمع، وتأكيد سيطرتها على التغيرات الاجتماعية والاقتصادية التي يمكن أن لا تحقق هدف هذه الأقلية أو هذا الحزب المتمثل بالبقاء في السلطة إلى الأبد. إذاً، لم تتمكن الدولة العربية من إيجاد سلطة منظمة للمجتمع، بل أنتجت سلطة متسلطة على المجتمع، فغاب التفاعل الإيجابي السلمي بين الفئات الأهلية والطوائف والقوى الاجتماعية المختلفة، لذلك بقي المجتمع في حاجة للدولة، خصوصاً في بلدان مثل سورية ومصر ولبنان وسواها. ويقابل هذا العجز اعتماد شديد على الدولة في البلدان العربية، خصوصاً من طرف الفئات الوسطى التي تنظر إلى الدولة بوصفها رب العمل المفضل. ومع أن هذه البلدان انقسمت في اعتماد نموذج معين للدولة، بين الرأسمالي والاشتراكي، إلا أن معظم السلطات العربية تعلقت بالاقتصاد المركزي الذي استفادت منه مافيات النظم العربية المتعايشة معه وعليه في ثنايا الفساد والإفساد السلطوي الممنهج، في حين أن الطبقات الوسطى العربية بقيت تتعايش على الراتب الحكومي كضمانة ضد الفقر. لكن الانهيار الذي طاول الطبقة الوسطى نتيجة الاستقطاب الحاد عالمياً واقليمياً ومحلياً، ازاح قسماً منها إلى الفئات المهمشة التي شكلت ذخراً للسلطوية الشمولية ولأصوليات دينية متطرفة. ويمكن القول ان معالم الطريق إلى الدولة – عربياً - مازالت تمرّ عبر مندرجات العقد الاجتماعي التي تجد أساسها في الديموقراطية التعاقدية، اذ يبدأ بالتساؤل عن النظام الأصلح الذي يحفظ التوازن الوطني وكفاءة المؤسسات وتكاملها وتعاونها، ويوفر فاعلية السلطات وتناوب السلطة وتجديد البنى السياسية. مع أن فكرة تكوين الدولة تقوم على تحديد المعالم المرتبطة بجملة من المبادئ والمسلمات التي تعتبر أساسا للعيش المشترك، والتي تجد متحققها في تجاوز الولاءات ما قبل المدنية والاستعاضة عنها بعقد اجتماعي متوافق عليه ودائم، يوضح أسس الشراكة في الوطن والالتزامات المتبادلة بين جماعاته، شريطة أن يبنى التوافق على عقد اجتماعي على قاعدة المساواة التامة بين المواطنين، ويؤكد على تأمين هذه المساواة دائماً وفي كل الظروف. وهذا يقتضي التعاقد على أساس سياسي يوفر بشكل ملزم ودائم آلية إنتاج السلطة الوطنية على قاعدة التوازن بين مختلف تكوينات المجتمع، وممارسة المسؤوليات في السلطة الدستورية والمؤسسات العامة على قاعدة الاستحقاق والمؤهلات من دون تفرقة أو تمييز بين مواطن وآخر. ---------------------------------------------------------------------------------------------------- الحياة - 05/11/05//