مصطفي النحاس هو الابن الأكبر لمحمد النحاس أحد تجار الخشب بمدينة سمنود بمديرية (محافظة الغربية) وقد نصح أصدقاء الوالد وعارفوه بإلحاق ابنه مصطفي بمدرسة ابتدائية بالقاهرة بعد أن لفت الطفل أنظارهم وأبهرهم بسرعة اتقانه لعملية التلغراف وتميزه ونبوغه فانتقل به والده الي مدرسة الناصرية المجاورة لضريح الإمام الحسين لزيارة الضريح وأمسك بسور الضريح وهو يدعو «الحسين» بمباركة ابنه والحفاظ عليه بلهجة بالغة التأثر والاستجداء والدعاء بينما كان مصطفي متأثرا بدعاء والده الي حد البكاء.. وسارت آثار التأثر في نفس الطفل مصطفي مسيرة الدماء في الأوعية والشرايين طيلة حياته منذ الطفولة وحتي الشيخوخة. والتزم مصطفي بالمثل العليا والطيبة ورفع شأن بيئته ورفاقه في كافة أطوار حياته ومراحل تعليمه يساهم في رفعة أقرانه حتي حصل علي ليسانس كلية الحقوق وتبني بدافع ذاتي شئون زملائه في كافة المراحل حتي نجح في وظيفة معاون نيابة براتب شهري عدة جنيهات بعد أن كانوا يوظفون كتبة نيابة براتب 5 جنيهات في الشهر، أما عن شخصه فقد امتنع عن التوظف كما رفض الالتحاق بمكتب لأحد المحامين الكبار وأصر علي أن يكون محاميا مستقلا. ونبغ وذاعت شهرته وقيمة الأخلاقية والمهنية فكان في مرافعاته متسماً بالشجاعة والصدق والتفاني والإخلاص.. هذه القيمة التي انصهرت بذاته الداخلية مهما كلفه الأمر ولازمته عندما أصبح رجل دولة ووزيرا وتجلت هذه القدرة والممارسة مما بلغ به في قضية الاغتيالات السياسية التي اتهم فيها عضوي الوفد المصري أحمد ماهر ومحمود فهمي النقراشي واتهامهما بقتل السردار البريطاني حاكم السودان، الي المدي الذي أعلن فيه النحاس في قاعة المحكمة أنه يتهم الحكومة والنيابة العامة بالتضليل والمؤامرة وتلفيق التهم للمواطنين والأبرياء ويعني بذلك أحمد ماهر ومحمود النقراشي الوزراء فيما بعد. أما عن تقاليد مهنة المحاماة ومنها ألا يقوم المحامي بسؤال وكيله المتهم عن حقيقة وصدق ارتكاب الجريمة من عدمه بصدق وشفافية ولا تمكن تقاليد مهنة المحاماة بأي رفض المحامي تقديم معونته لكل من يطلبها إلا أن النحاس المحامي حينئذ - وزعيم الأمة لاحقا - التزم بإصرار برفض أي قضية إذا لم تتفق مع أخلاقه وقيمه ومبادئه المهنية وإنما اتضح له أو اكتشف اختلاف وجنوح الدعوي عن قيمه ومعتقداته وبالرغم من سابق قبولها فكان يوقف السير فيها مهما كانت الظروف، وزاول النحاس المحامي مهنة المحاماة مقدساً لعمله الحر كمحام رافضا كافة العروض ليلتحق قاضيا بالسلطة القضائية رافضا فرصة التكريم العظيم التي قدمه له من وزارة الحقانية «العدل» ورفض النحاس كافة المحاولات والعروض التي قدمها له عبدالخالق باشا ثروت كبير مديري المحاكم بوزارة العدل «الحقانية» في ذلك الوقت ورئيس وزراء مصر فيما بعد. ولم يعدل عن التشبث بالرفض الي أن اتصل ثروت باشا بوالد مصطفي النحاس الذي لا يعصي له أمرا، والذي اضطر أن يقسم لوالده قسما غليظا ليقبل منصب القاضي وهنا انصاع النحاس المحامي لقبول العمل بالقضاء الذي قضي به 15 عاما وذاع ولمع خلالها كقاض نزيه، حسن السمعة، يدرس قضيته بدقة فائقة. وأمضي القاضي النحاس 15 عاما في منصب القضاء، ذاع ولمع خلالها كقاض مثلا للنزاهة رفيع السمعة، قضي منها 5 سنوات بمحافظتي قنا وأسوان ونقل بعدها لمحاكم القاهرة بقرار من المستشار وزير العدل وكان وقتها بريطانياً كان معجبا بما يحققه النحاس بأدائه، وبذلك قضي عشر سنوات في القاهرة حتي عام 1918. وإبان عمله قاضيا كان يصدر أحكاما تدفع الدولة الي تحويلها الي تشريعات قانونية ومن ذلك إزالة ونزع صفة الملكية للأوقاف الخيرية بالتقادم. كما أصدر حكما آخر، بثبوت الشخصية الاعتبارية لمجلس المديريات. وتتسم آراء النحاس بالمرونة الفكرية وبعودته إلي الصواب في حالة الخطأ فمثلا عندما أصدر حكما بحبس المتهم لفترة معينة وبعد النطق بالحكم استدرك القاضي النحاس خطأه الذي تجاوز الحد القانوني المقرر للحكومة فكلف النحاس، أثناء الجلسة كاتب المحكمة بأن يثبت في محضر الجلسة أن الحكم خطأ ويتوجب أن تستأنفه النيابة العامة - كما لو كان حكما جديدا تلتزم به النيابة العامة. كما حدث أثناء رئاسة النحاس لمحكمة جنح زنانيري بالقاهرة أمر النحاس كاتب الجلسة بأن يكتب في محضر الجلسة أن رئيس الجلسة حكم علي نفسه بأداء غرامة قيمتها جنيه لأنه وصف المتهمة المدعي عليها «كباغية» لم تجدد رخصتها السنوية ووصفها بوصف قبيح أثناء الجلسة بكونها باغية. وهكذا حكم القاضي النحاس علي نفسه بالغرامة لمجرد أنه شعر بأنه أهان باغية في قاعة المحكمة. كما حكم النحاس علي محمد باشا - مدير الغربية - أي محافظ الغربية بالغرامة ولم يفرج عنه إلا بعد سداد الغرامة وكانت تهمته أنه اعتدي بالسب علي مواطن. وفي إحدي القضايا مال رئيس المحكمة علي عضو فيها وقال: سوف نصدر الحكم الآن فرد عليه عضو اليسار مصطفي النحاس: إنه لابد من المداولة في حجرة المداولة فرفض رئيس المحكمة ونطق بالحكم في الجلسة.. وفي الحال قال النحاس للكاتب وبصوت يسمعه الجمهور والمتقاضون بالقاعة «اكتب لم يؤخذ برأي يحضر اليسار في هذا الحكم» مما أحدث ضجة بالقاعة واضطر رئيس المحكمة الي رفع الجلسة وانتقل الجميع الي قاعة المداولة وتسبب ذلك في بطلان الحكم. وعلم المسئولون بما حدث ومنهم وزير العدل آنذاك «سعد زغلول» وبعد أن حاولوا الإصلاح والتفاهم بين طرفي الخلاف،أشاد الجميع بحق وكفاءة وجرأة النحاس في الحق، وشكره وزير العدل علي صفاته المثالية والقدوة. بقلم: د. عبدالمحسن حمودة