لا يبدو أن مصر جاهزة، الآن، للخروج من المرحلة الانتقالية التي دشنها سقوط نظام مبارك ونشوء حالة الفراغ السياسي والدستوري . ولعلها لن تكون جاهزة لذلك الخروج في الأمد القريب على الأقل . أما الأسباب فعديدة ومتباينة، بعضُها موضوعي يفرضه الواقع الذي صَحَت عليه البلاد فجأةً، والتبعات والذيول التي ولدها، وبعضُها ذاتي وعلى علاقة بإرادات متنازعة وخيارات متجافية، وإن كان في حُكم العسير، أحياناً، تمييز الموضوعيّ من الذاتيّ . ثلاثةٌ من تلك الأسباب، في ما نتصور، هي أكثرها تأثيراً في المجرى الذي يقود مصر، اليوم، إلى تمديد المرحلة الانتقالية . أوّلها أنّ المجتمع السياسي المصري، بعد الثورة، أساء هندسةَ المرحلة الانتقالية، وأساء إدارتها . ولا تقع التبعةُ، في هذا، على طرف بعينه، أو بشكل حصريّ على “المجلس الأعلى للقوات المسلحة” كما يتهمه بذلك، اليوم، كثيرٌ من الأحزاب والقوى السياسية، ولا على حكومتيْ عصام شرف وكمال الجنزوري اللتين أريدَ لهما أن تكونا كبش فداء، بل التّبِعةُ تقع على الجميع: على الأحزاب، وميدان التحرير، ومجلس الشعب المنحَلّ، وبقايا النظام السابق في الأجهزة، فضلاً عن “المجلس العسكري” . فلقد تخبط الجميع في اتخاذ قرارات متسرّعة، أو مواقف قُصْوَوِية، أدّت إلى إنتاج حالة المأزق الراهنة: التراجعُ السيّئُ عن صيغة تعديل الدستور والذهاب إلى انتخاب جمعية تأسيسية لوضع دستور جديد، المسارعة إلى انتخاب مجلس الشعب وإلى انتخابات الرئاسة من دون الانتهاء من كتابة الدستور الذي على مقتضيات أحكامه تجري الانتخابات في الحالين، ضغط الشارع والأحزاب لإنهاء المرحلة الانتقالية سريعاً، واختصار المشكلة المركبة في شعار “تسليم العسكر السلطة للمدنيين”، وكأن بيت القصيد هنا . . إلخ . وهكذا انتهت الأمور، في غياب دستور متوافق عليه، إلى حيث مؤسسات الدولة كافة تقوم بأداء سلطات استثنائية ومؤقتة: “المجلس العسكري” يقوم مؤقتاً مقام رئيس الجمهورية، الحكومة مؤقتة، مجلس الشعب يقوم مؤقتاً مقام البرلمان لأنه لم يُنْتَخَب وفقاً لدستورٍ شرعي بل بموجب إعلانٍ دستوري كان التشريع له يعود، بصفة استثنائية، إلى سلطة غير تشريعية هي “المجلس العسكري” . . . وثانيها أن أشكالاً مختلفة من الرغبة في السيطرة على مقاليد السلطة، كافة، بدأت تجْهر بنفسها في بعض المجتمع السياسي المصري، في الأشهر التسعة الماضية، ورفعتْ من معدّل المخاوف والهواجس، لدى قسم كبير من المجتمع بات يخشى من أن يُعَاد إنتاج نظام شمولي جديد في البلد يُشبه سابِقَهُ الذي سقط . والحق، أن الرغبة في اكتساح البرلمان، وتشكيل حكومة على قاعدة أغلبيته، وحيازة منصب الرئاسة في مصر، في الوقتِ عينه، أخطأتْ حساباتها كثيراً، مدفوعةً بالاطمئنان إلى شعبيتها، حيث لم تأبه بأن اللاعبين كثر، وأنها ليست وحدها في الميدان، وأن كثيرين في البلد لا يمكنهم أن يتجرعوا، بسهولة، هذا القدر الهائل من الشغف بالسلطة . ولم يكن التصويت الكثيف، في الجولة الأولى، لحمدين صبّاحي وأحمد شفيق إلا قرينة واحدة، من قرائن عدة، على أن قسماً عريضاً من المجتمع والرأي العام لا يقبل أن تعود مصر، ثانيةً، إلى الواحدية في الرأي والتمثيل . لا عجب، إذاً، إن وَقَع تقييد هذا الجموح السلطوي بإجراءات استثنائية جديدة . ونحن، هنا، لا نبرّر ما يقع، ولا نلتمس له الأعذار، إنما نحاول أن نفسّر “النازلة” بأسباب نزولها الموضوعية . وثالثها أن “المجلس الأعلى للقوات المسلّحة” يعدّ نفسَه شريكاً لقوى ميدان التحرير في الثورة، فهو الذي أحجم عن مواجهة المتظاهرين أو منْعِهم من التظاهر، كما فعلت أجهزة الأمن، وهو الذي حمى حقهم في الاعتصام وأمنَ له الطوق الأمني الضروري لمنع أجهزة القمع من التدخل، وهو الذي استند إلى ضغط الثورة لإجبار حسني مبارك على نقل سلطاته إلى نائب رئيس الجمهورية، وهو الذي فرض عليه التنحي عن منصب الرئاسة، وهو الذي اتخذ قرار انعقاده من دون موافقة أو مشاركة رئيس الجمهورية، وهو الذي باشر السلطة الرئاسية، منذ بيانه الأول وحسني مبارك مازال في قصره، وهو الذي اختصر على الثورة الزمن والتضحيات لإنهاء حكم مبارك في ثمانية عشر يوماً، ثم إنه هو الذي أخذ تفويضاً من القوى السياسية كافة بإدارة المرحلة الانتقالية والقيام مقام رئاسة الجمهورية إلى حين انتخاب رئيس جديد . . . إلخ . وحين يقدّم “المجلس العسكري” عن نفسه صورةَ الشريك هذه في عملية التغيير، فلا شكّ في أنه ينتظر الاعتراف بحقوق الشراكة . وهذا أمرٌ لا يُدرَك إلا متى ما أخذنا في الحسبان أن رؤساء مصر الأربعة السابقين (محمد نجيب، جمال عبدالناصر، أنور السادات، حسني مبارك)، كانوا من قادة المؤسسة العسكرية، وأن الجيش لن يسلّم، بسهولة، سلطة كانت له منذ ستين عاماً . بل إن انقلاباً في مصر لم يكن مستبعداً لو لم تقع الثورة فتعفي الجيش من التدخل مباشرة لمنع ترئيس جمال مبارك: القادم إلى السلطة من خارج المؤسسة . هذه أسباب ثلاثة وجيهة للاعتقاد بأن مصر لن تخرج سريعاً من مرحلتها الانتقالية قبل أن تجيب قواها الرئيسة عن الأسئلة المؤجلة: سؤال التوافق على قواعد الحكم والسلطة، سؤال العلاقة بين الجيش والسلطة، بين النخب السياسية والمؤسسة العسكرية، سؤال الثقة المفقودة بين الجميع داخل المجتمع السياسي المصري . نقلا عن صحيفة الخليج