استعادادت مكثفة لافتتاح أول فرع لجامعة الإسكندرية في ماليزيا    وزير العدل ومحافظ البحيرة يتفقدان مكتب توثيق الشهر العقاري بكفر الدوار    وزير الأوقاف يهنئ الدكتور ماجد إسماعيل بتعيينه رئيسًا تنفيذيًّا لوكالة الفضاء المصرية    بوصلة مصر نحو «2040» علم وتكنولوجيا في مدار بريكس    تنظيم أول ورشة عمل تدريبية حول الصحافة في عصر الذكاء الاصطناعي    كامل الوزير لمُصنّعي الأسمنت: زيادة الإنتاج الحل الأمثل لتقليل الأسعار    ب«حملات إلكترونية».. حماية المستهلك يعلن تفاصيل إجراءات الرقابة على الأوكازيون الصيفي    مفتي لبنان: لن يكون هناك فتنة طائفية أو حرب أهلية وسنقف سدا منيعا أمام أي تحريض    روسيا تعلن استعدادها لتسليم 31 شخصًا إلى أوكرانيا ضمن اتفاق تبادل المواطنين    أزمة بين أستراليا وإسرائيل والثانية تلغي تأشيرات دبلوماسيين.. فما القصة؟    تعرف على منافس النصر في نهائي السوبر السعودي عقب تخطي اتحاد جدة    25 لاعبًا في قائمة منتخب 17 سنة للمشاركة في بطولة كأس الخليج    مصرع وإصابة 5 أشخاص في حريق بورشة موبيليات بدمياط    نقيب السينمائيين ينعي الدكتور يحي عزمي بكلمات مؤثرة    4.2 مليون في ليلة واحدة.. تعرف على ترتيب الأفلام في شباك التذاكر    فيلم "فلسطين 36" يزين سباق الأوسكار 2026    نجلاء بدر تعلق على التشكيك في غرق تيمور تيمور بسبب إنقاذ ابنه    كيف تعرف أن الله يحبك؟.. الشيخ خالد الجندي يجيب    الشيخ خالد الجندي: افعلوا هذه الأمور ابتغاء مرضاة الله    خطة لدعم خدمات صحة الأم والطفل وتحسين المؤشرات السكانية بسيناء    نائب وزير الصحة تبحث مع وفد اليونيسف تأهيل مستشفى العريش كمركز تميز لخدمات النساء والتوليد    تقارير: وفاة رزاق أوموتويوسي مهاجم نادي الزمالك السابق    ما علاج الفتور في العبادة؟.. أمين الفتوى يجيب    محافظ شمال سيناء يعتمد نتيجة الدور الثاني للشهادة الإعدادية    أسرة عبدالحليم حافظ تكشف حقيقة بيع منزله بمقابل خيالي لملياردير مصري    مهرجان المنصورة الدولي لسينما الأطفال ينطلق في فبراير المقبل    وسط أجواء فنية ساحرة.. "صوت مصر" يعيد أم كلثوم لواجهة المشهد الثقافي    خطوة بخطوة.. طريقة الاستعلام عن المخالفات المرورية    سماع أسرة الزوج وفحص هواتف.. تحقيقات موسعة فى مقتل لاعبة الجودو دينا علاء    إجازة المولد النبوي الأقرب.. العطلات الرسمية المتبقية في 2025    مدير أوقاف الإسكندرية يترأس لجان اختبارات القبول بمركز إعداد المحفظين    رئيس جامعة الإسكندرية في ماليزيا استعدادًا لافتتاح أول فروعها بجنوب شرق آسيا 2026    التربية المدنية ودورها في تنمية الوعي والمسؤولية في ندوة بمجمع إعلام القليوبية    شاهد.. مدير «الرعاية الصحية» ببورسعيد: حملة «صحتك أولًا» تهدف لتعزيز الوعي الدوائي    جولة تفتيشية للوقوف على انتظام حركة التشغيل في مطاري الغردقة ومرسى علم    بالأسماء.. وزير الداخلية يمنح 21 مواطنًا جنسيات أجنبية مع الاحتفاظ بالمصرية    الأرصاد: فرص أمطار رعدية على حلايب ونشاط رياح بكافة الأنحاء يلطف الأجواء    وزارة النقل تناشد المواطنين التوعية للحفاظ على مترو الانفاق والقطار الكهربائي    وزير الري: تطوير مؤسسي ومنظومة إلكترونية لتراخيص الشواطئ    صعود جماعي لمؤشرات البورصة بمستهل جلسة اليوم    " ارحموا من في الأرض" هل هذا القول يشمل كل المخلوقات.. أستاذ بالأزهر يوضح    "قصص متفوتكش".. 3 معلومات عن اتفاق رونالدو وجورجينا.. وإمام عاشور يظهر مع نجله    ميدلزبره يقترب من ضم موهبة مانشستر سيتي    الإمارات تسقط أكثر من 4000 طن مساعدات على غزة    كييزا يغلق باب الرحيل ويتمسك بالبقاء مع ليفربول    53 مليون خدمة.. ماذا قدمت حملة "100 يوم صحة" خلال 34 يومًا؟    الداخلية تؤسس مركز نموذجي للأحوال المدنية فى «ميفيدا» بالقاهرة الجديدة    رئيس الوزراء يلتقى وزير الدولة للاقتصاد والتجارة والصناعة الياباني    الأمم المتحدة ومنظمات غير حكومية: تكثيف الهجوم على غزة سيؤدى لأثر إنسانى مروع    هيئة التأمين الصحى: إشراك القطاع الخاص ركيزة أساسية للتوسع المستقبلى    دراسة تتوقع خفض الشركات الصينية أسعار سياراتها الكهربائية في أوروبا    الماريجوانا على رأس المضبوطات.. جمارك مطار القاهرة تحبط محاولات تهريب بضائع وأسلحة بيضاء ومخدرات    «عارف حسام حسن بيفكر في إيه».. عصام الحضري يكشف اسم حارس منتخب مصر بأمم أفريقيا    وقت مناسب لترتيب الأولويات.. حظ برج الدلو اليوم 19 أغسطس    رئيس وزراء السودان يطالب الأمم المتحدة بفتح ممرات إنسانية في الفاشر    أبرزها 10 أطنان مخلل.. ضبط أغذية منتهية الصلاحية ومجهولة المصدر ببني سويف    عماد النحاس يكشف موقف لاعبي الأهلي المصابين من المشاركة في المباريات المقبلة    حقيقة إصابة أشرف داري في مران الأهلي وموقف ياسين مرعي من مباراة غزل المحلة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



أحزان «جدعان» بولاق!
نشر في الوفد يوم 11 - 05 - 2012

علي أصوات الثوار في ميدان التحرير فتح «محمد» عينيه، خرج من وسط البيوت المتهالكة في الحي العريق.. أخذ نفساً عميقاً وصرخ بروح جده «البشتيلي» ارحل.. والشعب يريد.. خرج «الجدعان» أفواجا ببركة «السلطان» وتنفست الحواري والشوارع الضيقة نسيم الربيع في أواخر يناير..
هبت في نفوس الغلابة روح ثورة القاهرة الثانية.. أيام جدود الجدود..
حاربوا «الفرنسوية» واستشهد الأبطال بمدافع كليبر.. كما استشهد محمد وأصحابه برصاص مبارك.
عاشت بولاق أبوالعلا ميلاد الثورات وكان أهلها صناعاً للحريات وأبطالاً للمقاومة لم يهزمهم سوي الفقر الذي كان شريكا أساسيا في عصر «المخلوع».
حارب البولاقيون مشروع «القاهرة الكبري 2050» لأنهم اشتموا رائحة الطامعين من أصحاب السيجار في اليد المزدانة بالساعات الذهبية والياقات المعطرة ببارفانات باريسية لكنهم فتحوا صدورهم للموت في سبيل مشروع «مصر الحرة 2011».
قالوا علينا بلطجية وإحنا تاريخ الوطنية هكذا هب أهالي بولاق أبوالعلا يهتفون ضد اتهامهم بالتعدي علي المتظاهرين أيام اشتعال ثورة يناير، خرج شباب الحي العريق ليؤكدوا أمام الجميع وقوفهم بشدة ضد محاولات إلصاق أعمال العنف تجاه الثوار بالميدان وأمام ماسبيرو، كان من بين الثائرين «هاني السايس» الذي اجتهد في تنظيم وقوف السيارات بالتوازي مع رصيف كورنيش النيل يمسح عرقاً تساقط من فوق جبينه، وقال في حماس ممزوج بالغضب: إحنا جدعان بولاق.. طلعنا من بيوتنا وجرينا في الميدان وقلنا للظلم لأ ومات مننا شباب زي الورد واتصاب كتير.
حاولت تهدئته قائلا: هذا الكلام تردد حينما حدثت اشتباكات أمام ماسبيرو وأذاع التليفزيون وقتها أن أهالي بولاق يعتدون علي المعتصمين لكننا نعلم جيدا تاريخ بولاق فلا تغضب وكلنا مصريون.
وضع الشاب فوطة صفراء علي رأسه يحميها من حرارة الشمس أو من انفجار الغضب بداخله.. «إحنا عملنا لجان شعبية لحماية الثوار وقمنا بحماية موظفي التليفزيون من اعتداء ناس غريبة متسلطة عليهم.. أشاح الرجل بوجهه وقال: انتوا مابتقروش تاريخ؟! بدت كلماته وكأنها تعيد حكايات وروايات الجبرتي عن دور أهالي بولاق أبو العلا من جديد في إشعال ثورة القاهرة الذي كشف عن معدن أهل البلد الأصيل الذين ثاروا وحاربوا وقاوموا بالنبابيت والعصي وقليل من البنادق في مواجهة أحدث الأسلحة وقتها في يد عسكر نابليون قائد الحملة الفرنسية والذي فطن منذ أن جاء إلي القاهرة في عام 1798 إلي أهمية موقع بولاق فهي نقطة الانطلاق إلي الوجه البحري كله، فمهد الأرض بخط مستقيم من الأزبكية إلي بولاق بطول 1200 متر من قنطرة المغربي إلي بولاق ثم ينقسم إلي قسمين أحدهما إلي طريق أبوالعلا والثاني يذهب إلي جهة التبانة وساحل النيل.. وأقام الفرنسيون محاجر صحية بجزيرة بولاق، كما أقاموا بها طابية «رنزلو» وسبتزر وكونرو لاكتشافهم الأهمية الحربية لبولاق، كما وضعوا علي نيل بولاق قاعدة بحرية للأسطول الفرنسي، ويؤكد الجبرتي أن أهالي بولاق هم قادة ثورة القاهرة الثانية وكذلك الرافعي، بل شهد بذلك قادة الحملة الفرنسية أنفسهم وذلك في 20 مارس عام 1800 من القرن 19، وكان من زعماء الثورة السيد عمر مكرم والسيد أحمد المحروقي كبير التجار، وفي ذلك قال الجبرتي: أما بولاق فإنها قامت علي ساق واحدة بزعامة مصطفي البشتيلي من أعيان بولاق وحمل وقتها الأهالي السيوف والبنادق والرماح والعصي واتجهوا صوب قلعة كامان عند قنطرة الليمون أو كوبري الليمون لاقتحامها والاستيلاء علي ما بها من أسلحة فرنسية وفوجئ «كليبر» بحصون أقامها أهالي بولاق محل الوكالات والمخازن وسيطروا علي الملاحة في النيل ودفع الأهالي ثمن مقاومة المحتل من دمائهم حينما دمرها الفرنسيون وخربوا بيوتهم واستشهد عدد كبير من النساء والأطفال تحت الأنقاض مثلما وصف «مسيو جالان» مؤرخ الثورة الفرنسية، ويقال إن المذابح التي ارتكبها كليبر تجاه أهالي بولاق كانت سببا مهما في قتله علي يد سليمان الحلبي.
عندما تنطلق إلي حي بولاق أبوالعلا من كورنيش النيل تري النيل بمنظره الساحر والمباني الشاهقة كمركز التجارة العالمي والمركز الرئيسي للبنك الأهلي والمول التجاري الشهير وبرجين يعلوهما أربع قباب تخفي خلفها حيا ينطوي علي حكايات أصحابه من أولاد البلد «الغلابة»، فهل هي البحيرة الجميلة اي «بو» «لاك» بالفرنسية.. أم هي السفينة الغارقة التي علت فوقها مياه النيل وطميه وتكونت فوقها الأرض التي يعيش فوقها الآن أكثر من 4 آلاف أسرة علي حوالي 72 فدانا.. هل هي حلم المستثمرين العمالقة الطامعين فيما يسمي بمثلث ماسبيرو لينطلقوا بها نحو «العالمية» وهذا بالضبط هو المشروع الذي تبنته حكومات نظام مبارك في بولاق جديدة عام 2050، حيث سارت أحلام كبار رجال الأعمال تستقوي بمخاوف آلاف الأسر القاطنين بيوتًا قالوا وقتها إن 90٪ منها آيل للسقوط.
وكأنه حق يراد به باطل، فمساحات البيوت هنا تتراوح بين 10 و20 و30 مترا في نمط إسكاني غريب يقطن فيها أكثر من 5 أسر في شقة واحدة ويستعملون دورة مياه واحدة ويصعدون علي سلالم متهالكة تسقط بأطفالهم كثيرًا.. في حارات كالعدوية وسيدي سعيد والبوابة.. وبقايا من ربع الرز.. درب الجمالة والجلاويش والحارة التي تضم مقام «سيدي الاخرس» التي تبدو كأنها منحت السكان نصيبا من اسم صاحب المقام.. فقاطعوا الكلام عن أحوالهم وعلي رأي الست فاطمة: «اللي مايشوفش م الغربال يبقي أعمي» قالت هذا متهكمة علي سؤالي لها عن أحوالها وهي التي رغم كل ذلك تود أن تموت في حجرتها الضيقة محتضنة أطفالها اليتامي خير من أن ينتزعوها من أحضان حارتها ليلقوا بها في صحراء 6 أكتوبر كما يقول «الناس الكبار» علي حد تعبيرها.
لكن عم محمد نعمان الذي ولد هنا في «العدلية» لأب وجد من أهالي بولاق تكلم كثيرا عن الأحوال التي لم تعجبه بعد الثورة والبلطجية الذين انتشروا وبات علي كل شخص أن يحرس بيته وحارته قال الحاج نعمان: والله كنت أزور سيدي سعيد ودعوته أن يرد الأمان لمصر ويكمل ثورتها بالنجاح لأننا دفعنا دماء خيرة شبابنا من أجل أن يتولي الأصلح.. ثم قطع الرجل حديث السياسة قائلا: كان فيه زمان أبيار نتوضي منها وتشفي أي مريض لأنه من أهل الرسول- ثم عاد ليقول: «البلطجية كانوا زمان والسادات هد عشش الترجمان ليطهر بولاق ممن أساءوا إليها بتوع المخدرات والدعارة الله لا يرجعهم لكن للأسف حاليا فيه شوية حرامية وعاملين نفسهم فتوات لكن الفتوات كانوا زمان أيام حسن يم وإبراهيم كروم.. وبصراحة أوضاع البلد حاليا خلت الصنايعي قاعد من غير شغل والبلطجي هو اللي ماشي!! المحلات بتتسرق في عز الضهر.
تذكر كتب التاريخ ان العصر الذهبي لبولاق بدأ مع محمد علي باشا عندما أمر بشق الطريق «الساحر» بين القاهرة وضاحية بولاق حيث انشأ والي مصر دارا لصناعة السفن عندما كان يعد لإرسال الحملة الوهابية واستلزم ذلك إنشاء أسطول قوي لمصر في البحر الأحمر فتحولت المنطقة إلي الصناعة وأنشئت المسابك والمصانع في «السبتية» وفيما بين بولاق وشبرا علي ساحل النيل أقيمت الورش الكبري والمطبعة الأميرية ودار الصناعة الكبري وأصبحت بولاق ثغر القاهرة في الشمال وأنشئت أول دار للطباعة في الشرق ومصنع للورق وتحولت بولاق والسبتية إلي منطقة صناعية فيها مسابك الحديد ومصانع الأقمشة وورش النجارة والحدادة وبقي من هذه الصورة الآن تجارة الخردة والحدايد التي تكسو الأرض بالصبغة السوداء لتتشابه مع وجوه الصنايعية من الشباب والأطفال التي اصطبغت بنفس اللون لتخفي ملامح الشقاء في عز الحر.
المشهد يختلف تماما من ناحية شارع 26 يوليو الذي سمي بهذا الاسم بعد ثورة يوليو بعد أن كان اسمه شارع فؤاد الأول وهو الشارع الممتد من حديقة الأزبكية إلي ميت عقبة مخترقا حي بولاق أبوالعلا إلي جزيرة الزمالك عبر كوبري أبوالعلا قديما ثم كوبري الزمالك إلي نهاية سور نادي الترسانة يمينا والزمالك يسارا ليبدأ بعده محور 26 يوليو الذي يمتد ليصل إلي طريق القاهرة- الاسكندرية.. ومن شارع 26 يوليو تجد مبني «الإسعاف» وكانت محلات «البوظة» تنتشر في هذه المنطقة حتي منتصف القرن العشرين وإذا واصلت سيرك في شارع 26 يوليو من هذا الاتجاه تجد علي عينيك مستشفي الجلاء للولادة التي يصر سكان بولاق علي أن اسمه «مستشفي فاروق» وهو الذي يحمل أوجاع النساء في مراحل حملهن الأخيرة ليضعن مواليد هنا في قلب المستشفي النسائي الأشهر في مصر.
معارك
شارع 26 يوليو تغير كثيرا بعد ثورة يناير وكست بضائع الباعة الجائلين الأرصفة وامتدت إلي منتصف الطريق وشكل هؤلاء مع عربات الميكروباص لوحة للفوضي حولت الشارع لعقدة مرورية مزمنة وكثيرا ما يشهد الشارع نشوب الشجار بين الباعة بعضهم البعض، ولعل ما حدث منذ شهرين تقريبا كان أشبه بحرب حقيقية حينما اشتبك الباعة مع رجال الأمن في معارك استمرت لساعات طويلة وأشعلوا قطارات السيارات وهددوا أمن المنطقة بالكامل وأصيب العديد من المحلات بالتلفيات.. هذا اليوم مازال عالقا في ذهن الحاج توفيق الفطاطري الذي جلس علي كرسي عتيق مثل دكانه وجلس يراقب حالة التوهان التي يؤكد أنها أصابت الجميع الآن.. الدكان مفتوح لكن لا أثر لنار أو فطير.
خلاص بطلنا شغل وقعدنا بعدما موتوا الشعب.. وبغضب شديد اكتسي به وجهه: الجدع كان واقف يا ولداه بيعمل الفطير ويشوف أكل عيشه جتله الطلقة في صدره من ولاد الحرام.. من ساعتها وأنا قاعد مش عاوز اشتغل كان صغير واسمه حسن وعنده 4 عيال «كوم لحم» ولا صرفوا حاجة ولا غيره وراح الواد في شربة مية وأنا قرفت والشارع زي ما أنت شايفة اللي عاوز حاجة بيعملها لا فيه ظبط ولا ربط.
الدمياطي والخواجة
تركت الرجل «في حاله» كما طلب مني وكلماته تشق في القلب دروبا من أسي تملكني وأنا أراقب الدكاكين التي جلس أصحابها أمامها مكتوفي الأيدي أمام سطوة الباعة الجائلين وعبث الميكروباص الكل يضرب النظام في مقتل.. كلها دكاكين قديمة تحاول الصمود- الدهان والكبابجي والدمياطي وملك البطاطين وأفران المخبوزات الافرنجية ومحلات التسالي وكثير من المحلات التي غيرت نشاطها أو أضافت نشاطا آخر كإضافة لعب الأطفال والملابس وفرع قديم ل «باتا» جزء من تاريخ مصر الاشتراكي الذي «ذاب» في أنظمة مختلفة بلا ملامح.. وعلي اليمين أيضا محل ساعاتي عتيق هو الأقدم في مصر والعالم العربي كله.
مازلنا في شارع 26 يوليو صدي الزمن الجيل يحارب من أجل البقاء في زمن الفوضي والإهمال.. هنا متحف المركبات الملكية «اسطبلات الملك ورغم ما يحتويه المتحف من مقتنيات خاصة بالملك مثل العربة التي كانت تجرها الخيول وبعض السيارات القيمة ذات الطابع المتميز إلا أن جميع هذه المقتنيات تم تشوينها منذ أكثر من 10 سنوات في حجرة صغيرة من المساحة الكبيرة التي يشغلها المتحف، وهو كما يقول أحد الحراس علي هذا الحال منذ أكثر من 10 سنوات وعندما سألنا عن موعد الانتهاء من هذه الأعمال قال مبتسما: «الله أعلم»!
السلطان
أول ما يطالعك علي رأس بولاق من ناحية شارع 26 يوليو مدخل كورنيش النيل هو هذا المسجد الأكبر والأشهر والأقدم، مسجد السلطان أبو العلا علي بابه كثير من الأتباع والمريدين.. مساكين يجاورون السلطان وكأنهم يعملون بنصيحة كاتب الكلمات علي الباب الكبير «قف علي الباب خاشعا.. حسن الظن فهو باب مجرب لقضاء الحوائج وعلي لافتة أخري «سلطان الأولياء الحسين أبو علي الملقب بالسلطان أبو العلا ويتصل نسبه بالإمام الحسين رضي الله عنه وتوفي عام 895 ه.
في حارة ضيقة أحد جوانب المسجد بعطفة باب السر أكدت لنا إحدي «المديرات» التي تعتبر نفسها خادمة للسلطان أن هنا سرًا يستجاب الدعاء للداعي بإذن الله وليس بفضل السلطان والمسجد بني في عام 1485 ميلاد- 890 ه وتحكي العجوز لنا عن التاجر الخواجة نور الدين الذي بني هذا المسجد بعد أن زاره السلطان في منامه وأمره بالبحث عن زاويته، بينما تشير إحدي الروايات إلي أن المسجد بني محل مسجد آخر بناه الفخر ناظر الجيش، والمسجد مبني علي طراز مدرسة ذات أربعة إيوانات ومنبر فخم ويعد فخر المنابر الإسلامية في عهد المماليك الجراكسة.
ويعد مولد «أبوالعلا» الذي يحل في 13 يوليو من كل عام فرحة لأهالي بولاق ويأتيه محبوه من كل أنحاء المحروسة ويصبح المشهد غاية في الجمال والغرابة خاصة مع مجاورة وزارة الخارجية المصرية التي تلتصق بالمسجد.
كما يوجد في بولاق مسجد سنان وهو أكبر المساجد ببولاق وكذلك مسجد زين العابدين يحيي وهو أقدم المساجد ويقع بشارع الخضرا ويسمي أيضا جامع المحكمة، حيث استخدم كمحكمة في القرن العاشر الهجري حتي عصر محمد علي.
وسط أكوام الملابس المستعملة تلمح «فرحة» المساكين بشراء المستعمل من الملابس المستوردة التي تعد «الوكالة» هي أكبر أسواقها في مصر، أحلام الفقراء بل والطبقة الوسطي وبعض من الأثرياء ظاهريا يجدون في سوق المستعمل ضالتهم، فالملابس «مستوردة» يعني ماركة.. والأسعار «أحسن من الجديد» كما تقول لبني محمود موظفة حيث تؤكد أن «الوكالة رحمة» ولو أن الأسعار أصبحت غالية «عن الأول» وهو الأمر الذي فسره محمود طعيمة تاجر بغلو أسعار البالات وكما تعودنا أن نسمع من الجميع الحال لم يعد مرضيا لأحد.. والسوق نايم وكثير من الزبائن يأتي للفرجة.
من ناحية أخري يؤكد يحيي من كبار تجار «أكوام المستعمل» ان زبائنه مش دايما ناس غلابة ويقسم ان مذيعات وممثلات وموظفات بالتليفزيون يشترين كل لوازمهن منه وهو يتصل بهن عندما تصله البالة الجديدة.
عشش الترجمان
لم أشأن أن أنهي رحلتي في بولاق أبوالعلا إلا في شارع الصحافة.. هنا.. أقدم المؤسسات الصحفية في مصر أخبار اليوم والأهرام التي انتقلتا من شارع شريف في أواخر الخمسينيات وهنا تحققت أحلام الأخوين علي ومصطفي أمين حيث باع الأخوان ذهب الأم لينشئا المبني الدائري الأشهر في عالم الصحافة وليصبح رمزا لأخبار اليوم، وهنا لم تعد لعشش الترجمان أثر بعد أن هدمها السادات حيث أصبح رئيسا للجمهورية وكان قد اختبأ بها في فترة مهمة من فترات كفاحه السياسي وعلي يمين الشارع ميناء القاهرة البري الذي أنشئ علي مساحة كبيرة كانت تحتلها العشش من قبل، لم تتطور بولاق كثيرا، ولم تتغير إلي حد «التحول الحقيقي» عيناك تقع علي أبنية الصحافة ومحطة الأتوبيس الكبري والمول التجاري الحديث.. وتقع عيناك أيضا علي حواري ضيقة وبيوت آيلة للسقوط يخشي ساكنوها من التشرد إن هدمت.. ولا تستطيع أن تغمض عينيك عندما تري الأحلام الضائعة في عيون أطفال تعبث بأكياس بلاستيكية قديمة أو تلهو بمرجيحة تصعد بها للسماء وتهبط فجأة.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.