قبل أيام من وفاة البابا شنودة الثالث كنت في مترو الأنفاق حيث تركت مقعدي لسيدة شابة، وعندما جاءت محطتها رأيت الصليب على يدها فغمرتني سعادة لأن سلوكًا بسيطًا مثل الذي فعلته قد يترك لديها انطباعًا طيبًا بأنه لا فرقَ بين مسلم ومسيحي، ولا تمييزَ على أساس ديني، ولا تعاملَ عنصريًا، ولا ثقافة تعمق الكراهية وتحقر من شأن كل طرف تجاه الآخر. لقد تعاملت مع هذه السيدة باعتبارها مواطنة مصرية وإنسانة دون النظر لأي شيء آخر ولذلك قمت لتجلس هي من منطلق الأخلاق والرجولة والعرف، وهذا يحدث أيضًا عندما تكون معي سيدة من أسرتي، وربما يكون من يتنازل عن مقعده شخصًا مسيحيًا. لا يجب أن تكون هناك مشكلة دينية بين المسلم والمسيحي، بمعنى أن كل مواطن مصري وشأنه في دينه واعتقاده، فهو حرّ في اختياره، ولذلك على كل طرف احترام حرية الآخر في الاعتقاد، أو الاختيار، وألا يؤخذ ذلك من جانب الطرف المسيحي خصوصًا بحساسية شديدة تصل حد ارتكاب جرائم، فأي دين لن ينقص بأي عدد من الأتباع يتركه ويذهب لدين آخر. وإذا كانت هناك مشكلة في مصر فهي ثقافية واجتماعية بالأساس ذلك أن النظرة المتبادلة عند البعض يجب أن تتغير لتتحرر من نسق فكر التخلف والجهالة إلى قيم التسامح والانفتاح والتعايش المشترك والاحترام المتبادل كأي مجتمع متحضر لا تتحكم فيه العصبيات الدينية والطائفية والمذهبية والقومية، وهذه العصبيات هي الأخطر على الإطلاق في الخلافات بين أي مجموعة سكّانية حيث تولد صراعات وحروب لا تنتهي وتخلّف دماء ودمارًا وخرابًا واسعًا. أي صراع ليست أسبابه دينية أو مذهبية أو قومية أو عرقية قابل للتسوية السريعة والنهائية، أما ما دون ذلك مما ذكرناه فلا ينتهي مهما مرت السنوات ومهما تحضرت وتأَنْسنت المجتمعات. الصراع داخل البيت الإسلامي بين السنة والشيعة ممتد منذ أكثر من ألف سنة، وهو مستمر لليوم، ولن ينتهي. والصراعات الدينية داخل البيت المسيحي في أوروبا امتدت قرونًا ولم تتوقف إلا بعد أن اقتنع المتحاربون أن أحدًا منهم لن يخرج فائزًا ولذلك ألقوا السلاح والأفكار الدينية الدموية، وحتى سنوات قليلة خلت كانت هناك ذيول لتلك الحرب بين الكاثوليك والبروتستانت في أيرلندا الشمالية ثم توقفت باتفاق الجمعة العظيمة لكن بعد أن أيقن المتقاتلون أنهم جميعًا خاسرون. والحروب الصليبية أوقعت ألوف الضحايا ولم تنتج شيئًا غير الخراب والكراهية، ولذلك أتمنى أن يكون العقل المسيحي الغربي قد اقتنع بخطأ تلك الحملات، وأن يكون قد نبذ فكرة الحرب الدينية أو الاستعمارية مع المسلمين واعتمد نهج التعايش الحضاري المثمر بين الإسلام والمسيحية دون أفكار التبشير أو الإقصاء، فأرض الله واسعة، وكل البشر هم خلقه، والرسل مبعوثوه، والأديان منزلة من عنده، والمحبة يجب أن تسود بين المؤمنين به من مختلِف الأديان، وهو سبحانه سيحكم بين الجميع يوم القيامة. والرسالات السماوية لم تنزل لشقاء البشر، إنما لسعادتهم وخدمتهم، لكن أتباع هذه الرسالات هم الذين يتسببون بتعصبهم وضيق أفقهم فيما يقع من كوارث باسم الأديان وباسم الله. في مصر يجب أن يتخلى أي مسلم عن فكرة نبذ المسيحي، أو مضايقته، أو تحويله، وعلى المسيحي أن يدرك أن مصر بلد غالبيته من المسلمين، وأنهم أبناء البلد الأصلاء مثل المسيحيين تمامًا، وأنهم ليسوا ضيوفًا على مصر. والعملي والمفيد أن يدرك الجميع أنهم مواطنون مصريون متساوون في الحقوق والواجبات وكلهم يعملون في خدمة وطن اسمه مصر والفارق الوحيد أن هذا يذهب للمسجد وذاك يذهب للكنيسة، أي يطبقون المقولة الجامعة الرائعة الدين لله والوطن للجميع. في نفس اليوم الذي أجلست فيه سيدة مكاني في المترو ظهر لي فيما بعد أنها مسيحية وسعدت بذلك كنت قبلها أتعامل مع موظف بنكي مسيحي على درجة عالية من التعاون والخلق وقد أشدت به عند رئيسته، وكنا - نحن الاثنين- نموذجًا للمواطنة المصرية الحقة، ولم نتطرق إلى الاختلافات الدينية، بل لم نسأل بعضنا البعض عن الدين، ولم يكن يعنينا هذا الأمر رغم أننا تناقشنا في بعض القضايا التي يمر بها البلد. أليس مثل هذا التعاون النقي الخالص أفضل من التحارب والتجادل بخناجر الكلمات، حيث استهلاك الوقت والجهد فيما يضر وفيما يخلق الكراهية والأحقاد. أخلص إلى أن مصر توفرت لها فرصة جيدة لإزالة أي توترات أو تشوشات أو رواسب أو ثقافات أو أفكار غير متحضرة بين أبنائها من المسلمين والمسيحيين وذلك برحيل البابا شنودة بما ظهر خلال الرحيل والجنازة من مشاركة وجدانية للمسلمين للأقباط من أحزان، ومن اهتمام إعلامي عام بذلك المصاب حيث عاشت مصر حالة حداد عام، أو مشاعر عامة واحدة بأن البلد فقد شخصية دينية وسياسية مهمة. فائدة ما حصل أن المصريين المسلمين وجهوا رسالة شعبية للأقباط بأنهم ليسوا معزولين عن بقية المصريين، وأنهم ليسوا أقلية عددية وسط أغلبية، بل هم جزء من شعب مصر، جزء من التركيبة والنسيج المصري، وبالتالي وجب عليهم الاندماج الجاد مع بقية الشعب وترك الانعزال أو العزلة الاجتماعية والسياسية والثقافية، والتخلي عن الشكاوى من الاضطهاد والتمييز وبعض الأفكار المرضية حتى يختفي التقسيم بين مسلم ومسيحي ليندرج الكل تحت وصف عام اسمه مواطن مصري فقط. والجميل في الطبيعة المصرية الفريدة أنه لا يمكن التفريق في الشكل والطبائع والسلوك ونمط الحياة وحتى في الفهلوة والعشوائية بين المسلم والمسيحي، ولا يتم فرز المسيحي وهو في تجمع من المصريين إلا بذلك الصليب المرسوم على يده. أتمنى أن تبدأ مصر مرحلة جديدة من المحبة، والتسامح، والذهن الصافي، والتصافي الروحي، والمواطنة الحقة، والتخلص من أي شوائب، أو رواسب قديمة مع انتخاب رئيس جديد، وبابا جديد.