لا تشبه الثورة شيئاً آخر في حياة الناس. لا تسري عليها العادات والأعراف والقوانين التي يتآلفون عليها في أيامهم العادية. وحين نتحدث عن الثورة السورية تحديداً فإننا نحاول ملامسة ظاهرةٍ جديدةٍ كلياً، خاصةً إذا أخذنا بالاعتبار كل ما فيها من خصوصيات سياسية وثقافية واجتماعية وجغرافية. ربما يطول الحديث ويتشعّب، لكن الأمر ينتهي عند (الملامسة) وهو أبعد ما يكون عن (الإحاطة). قد يكون هذا سبباً لكثيرٍ من المشاعر المتناقضة التي تراود السوريين وغيرهم هذه الأيام. فمنذ عامٍ مضى من عمر الزمان كانت سورية، بسياستها الخارجية وأوضاعها الداخلية، كتاباً مفتوحاً سهل القراءة. لكنها اليوم تكاد تكون لغزاً يُحيّر الكثيرين. وإذا بحثنا عن شيءٍ حققته هذه الثورة فقد يتمثل في كشف كثيرٍ مما كان مستوراً في سوريا وعنها. كشفت الثورة أولاً حقيقة نظامٍ كان يملك أكثر من وجه. فوجهٌ يدّعي الوداعة والتحضّر، وآخر يبدي ملامح المقاومة والممانعة، وثالث يتلبّس لبوس المعاصرة والتقدم. أفلح النظام السوري ماهراً في اللعب على تناقضات المنطقة والنظام الدولي عقداً من الزمان، واستخدم تلك الوجوه بشكلٍ متناوب، إلى درجةٍ أصبحت فيها شعبيته بين بعض دول المنطقة كبيرة. كان المشهد سوريالياً بكل معنى الكلمة، لكن الكذبة كبرت حتى أصبحت في نظر الكثيرين حقيقةً واقعة، وصار النظام أشبه بسرطان لبس قناع الحياة وبات وجوده طبيعياً وعادياً. لهذا، لم يكن ممكناً كشف حجم الزيف والتزوير والادّعاء في هذا المجال بممارسةٍ عادية أياً كانت وفي أي ساحةٍ جاءت. كان الأمر بحاجةٍ لثورة. وما إن أشعلها الشعب السوري حتى سقطت الوجوه والأقنعة، وظهرت حقيقة النظام الأصيلة واضحةً كالشمس، بكل ما فيها من ملامح القبح والبشاعة والتشويه على جميع المستويات. والخطير في الموضوع ليس جانبه الأخلاقي، رغم معانيه المعبّرة، وإنما أهميته الفائقة كتطورٍ استراتيجيٍ إقليمي وعالمي بالغ الأهمية، لأن لسوريا دوراً حضارياً يجب أن تلعبه وستلعبه في نهاية المطاف، بما لها من رصيدٍ تاريخي وإمكانات بشرية وموقع مميز في الجغرافيا السياسية. وهذا ما كان مستحيلاً في ظل الواقع السابق، وانفتحت أبوابه الآن رغم كل التضحيات. وستظهر ملامح صدقيته خلال أسابيع بغض النظر عن كل ما يجري الآن. كشفت الثورة السورية أيضاً، وتكشف باضطراد، الحاجة لنظامٍ إقليمي وعالمي سياسي مختلف. وإذا كانت الثورات في مصر وتونس واليمن وليبيا قد وضعت هذا النظام أمام استحقاقات جديدة، فإن الثورة السورية أكّدت بما لا يدع مجالاً للشك الحاجة إلى بلورة نظامٍ مغاير لا يتعامل مع هذه الظاهرة بعقلية (الاستيعاب والالتفاف). فهذه الممارسة لم تعد كافيةً على الإطلاق. وإذا استمرّت فإن العالم بأسره سيواجهُ تحديات ضخمة لن يمكن مقارنة تحديات العقد الماضي أمامها في قادم الأيام. ثمة حسابات جذريةٌ يجب أن توضع على طاولة البحث والتحليل في هذا المجال.. وربما بات مطلوباً إعادة النظر في كل قواعد العلاقات الدولية، وارتباطها بالسياسات الداخلية للكثير من البلدان. لكن أعظم ما كشفته الثورة السورية يتمثل في قدرة هذا الشعب على استخراج مخزونه الحضاري الهائل وإحداث نقلة في منظومة القيم والمعاني، وفي القدرة على التنسيق والابتكار والتنظيم، وعلى استيعاب المراحل وتوزيع الأدوار، وعلى خلق وتأمين شبكات فريدة ومتطورة للعلاقات الاجتماعية باتت ترسم ملامح نسيجه الوطني. دع عنك كل الظواهر السلبية التي يغرق البعض في ملابساتها بعد أن أفلح النظام في أن يجعلها، بشكلٍ مؤقت، أجندةً إعلاميةً ذات ضجيج. لا نقلل هنا من قيمة التحديات وحجمها أياً كانت، وبعناوينها الكثيرة المعروفة. لكن هذا لا يجب أن يلهي العقلاء عن حجم الكمون الذي أظهرته الثورة، وعن ملامح سوريا الجديدة التي سيُظهرها هذا الكمون في آخر المطاف. لا تعدم سوريا هؤلاء العقلاء، وهم كثرٌ رغم ضجيج شرائح أخرى. لفت نظري في هذا الإطار مقولةٌ لأحد أبطال الثورة المجهولين من قلب حمص أنقلها بتصرف بسيط ويقول فيما يقول فيها: «لم تعد تروقني الصورة الإعلامية التي تصنعها وسائل الإعلام عن ثورتنا، وهكذا غالبا ما يكون الإعلام سبب المشاكل لربيعنا العربي، فهو يسلّط الضوء على ما يريد ويغفل ما يريد، ويسمي الأشياء بأسماء يريدها.. وأود أن أضرب أمثلة عما أقصد: فما أكثر ما يخرج لنا الناطقون الإعلاميون من هذا التجمع أو ذاك، ليندبوا حظهم ويشكو قلة حيلتهم. هكذا أُخرجت الأمور كلها من سياقها الأصلي، وتحولت قصتنا من ثوار أبطال اتخذوا مسلك النضال السلمي ودعم الجيش الحر لنيل الحرية وتحقيق العدالة والديمقراطية إلى شعب أعزل لا حول له ولا قوة يتعرض يوميا لمجازر من قبل قوات الأمن والجيش.. وباتت ثورتنا (مأساة إنسانية) تستحق الشفقة والبكاء في كل نشرة، ونسينا أننا بلغنا من القوة ما لم نبلغه طيلة عقود ماضية لما كنا نقضي أيامنا ضحكا ولهوا.. وأن النظام بلغ من الضعف ما لا يتصوره مرء.. من يريد أن ينجح في ثورة لا يبكي وهو يناشد العالم في التدخل ولا يوفر مناسبة ولا منبرا إعلاميا ولا تسمية جمعة إلا ويناشد (ضمائر وأخلاق العالم) للتدخل.. هذه ثورة يا سادة.. وكل ثورة تأتي بمصالح جديدة وتلغي مصالح قديمة. وهذا يعني بالضرورة وقوف الكثيرين ضد إفساد مصالحهم ودعم البعض لأجل إرساء مصالحهم المأمولة.. (ونظام الأسد بالذات لم ينجح سوى بربط مصالح العالم معه). المناشدات والبكاء على الشاشات وتصويرنا على أننا ضعفاء أمام جبروت الأسد لن يقدم مثقال ذرة.. ثم هو تغيير لحقائق الأمور.. يكفي ندباً وبكاء ورجاءً واستجداءً.. ولنتحدث بمنطق القوة، بمنطق الثورة، منطق من أخذ زمام المبادرة، وصنع واحدة من أعظم الثورات العربية.. التفكير السلبي لا يرى إلا المشاكل والعراقيل والإخفاقات، حتى في الثورات. كما عملت وسائل الإعلام على صرف تفكير الكثيرين لمدة طويلة عن القدرة الذاتية للثورة، وغرقت وأغرقت حتى بعض الثوار في معزوفة البحث في متى يتدخل المجتمع الدولي ولم وكيف، وهكذا أمضينا جُمعاً كثيرة نرجو الآخرين التدخل تحت مختلف التسميات (مناطق آمنة، حظر جوي...). لست ضد المساعدة الدولية للثورة، لكنني ضد الاستجداء لهم كل ساعة وفي كل مناسبة.. وضد البكاء على شاشات التلفزة لأجل ذلك.. أنا هنا لا أعمم، فهناك من يخرج ليتحدث بمنطق الثورة والقوة والتحدي والاستبشار وعلى أمثال هؤلاء يتوقف مستقبل سوريا الجديدة وثورتها المجيدة». كلامٌ معبّرٌ أصيل يُعبر عن روح الثورة السورية، فالمعطيات التي لدينا تؤكد بأن الأيام حُبلى بالكثير.. والأمور تتقدم رغم كل المظاهر.. ومسارات السياسة المُعلنة لا علاقة لها في بعض الأحيان بما يتمّ التحضير له في واقع الأرض.. هل يعلم الكثيرون معنى أن يدخل مراسلو الجزيرة والعربية (المناطق المحررة) في سوريا بكل حرية، وأن ينقلوا الصورة منها؟! هذا مثالٌ واحدٌ، والمهم ألا نسمح لضغط اللحظة الراهنة أن يدخل الوهن في النفوس ويُشيع اليأس في قلوب الناس. باختصار، دعونا نتذكر دائماً ونذكّر الآخرين: الثورة السورية أعظم ثورات العصر الحديث، فحذار من تقزيم صورة هذه الثورة بأي حالٍ من الأحوال. نقلا عن صحيفة العرب القطرية