في الوقت الذي كسرت فيه ثورة الفضائيات العديد من التابوهات التي عششت طويلاً في فكر وضمائر الشعوب لاسيما العربية، وأحدثت نقلة دراماتيكية في نمط الحياة والتلقي والتعايش بين الناس، تسببت على خط موازٍ إلى حد ما، في القفز فوق الكثير من الحواجز الاجتماعية والفكرية والثقافية، لتسهم في تشكيل الفكر العربي وإعادة صياغته على نحو مدروس في كثير من الأحيان، ومتخبط في أحيان أخرى! ولقد حفل العقدان الأخيران تقريباً ببزوغ نمط من البرامج الفضائية لم تعتد عليه مجتمعاتنا، استطاع منذ انطلاقته أن يغير خارطة التفكير العربي ذي الاتجاه الواحد المفروز سلفاً بلا احتكاك ولا أنياب، إلى استقطاب جماهيري حرك في العقول الأسئلة المتراكمة التي يعلوها الكثير من غبار أنظمة البوق الواحد واللغة الواحدة، والمصدر الواحد للعلم والمعرفة والاقتصاد.. وكل شيء. كان هذا النمط هو البرامج الحوارية المباشرة، التي لا ينكر لها أنها حركت رواكد المياه في الفكر العربي، وتسببت في تلاقحه مع الآخر رغماً عنه، ليقف أمام الحقائق والأوهام ويعيد فرزها وصياغتها على النحو الجديد، ويسمع المشاهد العربي الذي اعتاد النمطية الأحادية في التعاطي الفكري والثقافي؛ أنماطاً كثيرة تتعارض معه أو تتفق، ولتصنع منه كائناً ثقافياً جديداً يصلح لمواكبة الطفرة العلمية والحضارية في القرن الواحد والعشرين، ومتطلبات الحرية الفكرية والديمقراطية. ومع ذلك فقد وقف البعض موقف المشكك منذ البداية في مثل هذه البرامج وحاول التقليل من شأنها، إلا أن تيارها الجارف كان أسرع، فتوارت مثل هذه الأصوات إلى حين. غير أن الأمر في الآونة الأخيرة بدأ يأخذ منحى آخر غير براءة التحاور الفكري والثقافي، ليتجه إلى التشابك بالأيدي أمام الناس وعلى الهواء مباشرة! واستخدام ألفاظ تصدم حياء المشاهدين من الرجال والنساء، ولتقتحم المهاترات بيوتنا تحت عباءة الحوار والبحث عن الحقيقة! وأصبحنا نرى المثقفين أصحاب الأسماء، يدخلون "حلبة" النقاش الفضائي وكأنهم يدخلون حلبات المصارعة، إما قاتل أو مقتول، في صراع أشبه ما يكون بصراع الديكة! ويبدأ النقاش بالاستخفاف من الآخر وينتهي بضربه، في جو يسوده قانون "من يرفع صوته أكثر ويشتم أكثر يخرج منتصراً"! وبين هذا وذاك يجلس راعي البطولة "مقدم البرامج"، ليفسر الشتائم بين الطرفين ويسمع الطرف الآخر ما قيل فيه مع التأكيد، فلعله لم يسمع، ويطلب منه سرعة الرد من دون تردد، وإلا استخف به هو الآخر وأسمعه كلمات الندم على استضافته في برنامجه الحواري. وأظن أن هذا المآل لم يكن أبداً في فحوى السيرة الذاتية التي تقدم بها هذا البرنامج للناس، على أساس أنه برنامج حواري تنويري ينصت فيه الناس للرأي والرأي الآخر، ويستمعون للكلمة والكلمة الأخرى، وليس للكمة واللكمة الأخرى، أو المسبة والمسبة الأخرى.. وربما يقول قائل إن مقدم البرنامج أو معده لا يمكن له أن يتحكم في تصرفات الضيوف، ونقول قد يكون جزءا من هذا الوضع صحيحاً في أحوال نادرة، إلا أن الحقيقة هي قدرة مدير الحلقة بين الطرفين على أن يفرض جو الهدوء الذي يضمن استمرار الحوار حتى النهاية للخروج بأفضل النتائج، ويراقب عدم ارتفاع وتيرة النقاش إلى الدرجة التي يدخل بها حيز العراك اللفظي أو الجسدي. نحترم بلا أدنى شك ثقافة الحوار، ونعلم يقيناً أنها السبيل الوحيد لنضج الشعوب وخروجها من مرحلة المراهقة الفكرية إلى الاستقرار والعطاء، إلا أننا لا نرى أدنى فائدة من تأجيج مشاعر الناس واستقطابها نحو الآخر مهما كان فكره، ما دام يملك حقه الأبدي في التفكير والاعتقاد، لا أن نصادر ونحقر ما يحمله الآخرون من أفكار. ولعلنا لا نجد الكثير من الآذان المصغية للعودة بجو هذه البرامج إلى طهرها الأول الذي وجدنا فيه متنفسنا الفكري، لأن نسبة المشاهدة وما يستتبعها من مردود ربحي أو إعلاني أو أجندات مفبركة، تحكم في كثير من الأحيان جو ما يعرض، إلا أننا نقرع جرس الإنذار في فواصل هذه البرامج، بأن المستفيد الوحيد من تحول هذه البرامج عن وجهتها الأساسية هو الطفيليات المجتمعية، التي تجد في هذا الاستقطاب التشهيري تربة خصبة لتنمو وتأكل في طريقها الكثير من الاستقرار والتعايش بين الناس، والبناء الفكري الثقافي الهادئ. وإذا كان الخلاف لا يفسد للود قضية، فلمَ لا يكون الحوار أيضاً لا يفسد هو الآخر للود قضية؟ ولماذا نراهن على أن تجييش مشاعر الناس والنفخ فيها سيصنع المعجزات، ولا نقتنع بأن تنوير عقل واحد أفضل من احتقان ألف عاطفة؟ وعلى الطرف الآخر، نربو بجمهور المتلقين أن يقعوا فريسة أخطاء بعض تلك البرامج، ويصنفوا أنفسهم مع أو ضد بدرجة حادة لا تقبل القسمة ولا تعترف إلا بالضرب، لأنها آنذاك تكون قد حكمت على استقرارها بالزوال، وعلى عقلها وثمراته بالذبول. نقلا عن صحيفة البيان الاماراتية