«عاوز حقى يا حكومة من الكمسرى اللى ضربني» بهذه الكلمات صرخ مُسن بعدما اعتدى عليه كمسرى بالضرب المبرح، بسبب عدم قدرته على دفع ثمن تذكرة الأتوبيس. صاحب مشكلتنا، هو ملحن يبلغ من العمر أرذله، دار به الزمن حتى أضحى لا يملك جنيهين، ليستقل بهما أتوبيس نقل عام، فى شارع المعز لدين الله درب المغاربة، بباب الشعرية يعيش حسنى محمد أحمد جاويش، يبلغ من العمر 80 عاماً، كان يعمل ملحناً بجمعية الملحنين والمؤلفين، حتى تقاعد، وأصبح يقضى أوقات يومه مع بعض الأصدقاء فى أحد المقاهى القريبة من المركز الثقافى الروسى، بالدقي.. معاش هزيل، وارتفاع جنونى للأسعار، جعله غير قادر على مواجهة أعباء المعيشة. الصدفة وحدها جعلتنى شاهدة على الواقعة حينما رأيت مشاجرة بين عجوز وكمسرى أتوبيس نقل عام، بعدما طلب الكمسرى دفع ثمن التذكرة، ليرد العجوز أنه لا يملك المال، فرد عليه الكمسرى، بسيل من الإهانات، واتهمه بالتسول، فتدخل أحد الركاب بالتطوع فى دفع التذكرة، إلا أن المسن رفض ذلك، وفَضل ترك الأتوبيس فى المحطة القادمة، إلا أن الكمسرى لم يتراجع بل واصل إهاناته للعجوز التى وصلت للاعتداء البدنى، ما نتج عنه جروح وسحجات بالرقبة والرأس. اضطررت للتدخل بالدفاع عن العجوز بعدما تخاذل الجميع، ونصحت الرجل بالتوجه إلى قسم الدرب الأحمر لتحرير محضر ضده. فى صباح اليوم التالى، جاء المسن إلى جريدة الوفد، فهو رجل أسمر البشرة، متوسط القامة، رمادى الشعر، ووجهه ملىء بالتجاعيد بسبب التقدم فى السن، ويرتدى بنطالاً رمادياً وقميصاً رثاً، يحمل معه حقيبة بلاستيكية بها محتويات لا يراها أحد سوى من يطمئن له قلبه ومع ذلك ليس بها أشياء ثمينة مثل «زجاجة مياه، مناديل، ملابس، ليس أكثر، عندما يتحدث يأتى بمخيلتك أنه من الطبقة الارستقراطية». هذا الرجل الوقور، يسكن فى حى قديم طوى فيه الدهر من عمره العديد من السنين، بالرغم من أنه حينما تراه سرعان ما يتسرب إليك الشعور بالشفقة نحوه إلا أنه تخرج من عينيه نظرات ثقة وغرور كأنه مريض بجنون العظمة. تناول طرف الحديث، وأخذ فى سرد ما حدث له، وبدأت عيناه تدمعان، فقال «أنا راجل عندى 80 سنة ليه كمسرى عنده أقل من 30 سنة يهيننى ويدوس على كرمتى ويضربنى، ويشير لى على مكان الإصابة». وتابع «ده حتى محترمش الشيبة اللى أنا فيها وكل ده عشان ليس لدى ثمن تذكرة الأتوبيس ويا ريت حد من الركاب دافع عنى ده كل الناس كانوا عاملين نفسهم مش شايفين ماعدا واحد بس اللى دفعلى الأجرة». وأضاف عم جاويش، أن الكمسرى لم يكف عن سبه وضربه لى حتى صاحت الزميلة هبة، قائلة «ايه هو محدش عاوز يرد على الكمسرى ويدافع عن الراجل اللى أد أبوكو ده». وأضاف عم جاويش: «كل شخص أطلب منه أن يحرر لى محضراً فى قسم الشرطة ينظر إلى باستهزاء ويرحل، واستمر ذلك حوالى ساعة ونصف حتى وافق أحدهم، ولكنهم كانوا يسألوننى عن اسم الكمسري، كيف لى أن أعرف اسمه وأنا لا أعرفه شخصياً، ولكن أعطيته رقم الأتوبيس وقمت بسرد ما حدث بالتفصيل، وطلب منى «الضابط» بأن أقوم بعمل كشف طبى بمستشفى أحمد ماهر وهو قريب من القسم، وقبل أن أترك القسم أخذت رقم المحضر «4989»، وذهبت للمستشفى، وتم علاج جروحى، ولكن رفض الطبيب إعطائى تقريراً طبياً بحالتى ولم أعرف السبب حتى الآن. انهار ملحن الزمن الجميل، فى البكاء حسرة بعد فقدان العزة والكرامة، وبدا ذلك على وجهه الذى تكسوه التجاعيد.. ويستطرد «أنا ليه الناس كلها بتعمل معايا كده أنا الدنيا بهدلتنى أنا كنت ملحن أيام السبعينيات»، وأخرج من حقيبته، ويداه ترتجفان صوراً كثيرة مع فنانين قدامى من ضمنهم عبدالحليم حافظ ويجلس جاويش بجانبه ممسكاً العود. وتابع «علمت أولاد عبدالناصر التلحين وتزوجت من سورية وتركتنى وسافرت وأخذت ابنى معها». ويكرر «الدنيا بهدلتني هو أنا لازم يكون معايا عربية وفيلا عشان الناس تحترمنى»، وعندما سألته عن عمله الآن قال إنه لا يعمل لكنه ينفق من معاشه عندما كان يعمل مُلحناً وهو 800 جنيه فقط، ويعيش بمفرده وطلبت منه رؤية بطاقته الشخصية أجاب «حتى البطاقة رافضين يجددوها لى كل ما أروح أجددها يقلولى الماكينة بايظة»، وأعطانى بطاقة ورقية متهالكة منذ عام 2004 ومكتوب بخانة العمل «مطرب ومُلحن بجمعية المؤلفين والملحنين».