«الفقر والجوع والمرض» مثلث رعب يتعايش معه الغالبية فى هذا الوطن ليل نهار، دون بارقة أمل فى الخروج من نفقه المظلم منذ سنوات طويلة. «قطار الصعيد» واحد من زنازين جلد الغلابة فى هذا المثلث، يحمل الفقر والجوع والمرض فى رحلة واحدة، «الوطن» شاركت ركاب القطار رحلة المعاناة اليومية، ورصدت وجوهاً أرهقها الألم، وفقراء يتراصون على رصيف المحطة فى انتظار القطار، منهم من يشكو معاناته لأحد أقاربه، ومنهم المودِّع زوجته وأولاده قبل السفر غير مأمون العاقبة «والله بقالى تلات سنين ما قادر أجيب جلابية» كلمات حزينة مكسورة قالها عماد عنتر، أحد المواطنين الموجودين على محطة قطار طهطا، عائداً إلى قريته التابعة لمحافظة أسيوط. يجلس «عماد» مهموماً حزيناً واضعاً رأسه بين كفيه بحوزته «مقطف» من سعف النخيل، يحمل به «الرمان» الذى كان يأتى بها من قريته الصغيرة، لبيعه فى مدينة طهطا، لكسب رزقه، ويروى بابتسامته التى تسبق حديثه، أنه يجمع من بيعها 40 جنيهاً «أنا قاعد من ساعتين والله عشان أركب القطر.. أصله ساعات الكمسرى مش بياخد منى فلوس». مؤكداً أن ما يملكه من حصيلة رزقه التى يعول منها أسرته المكونة من تسعة أفراد، لا يكفى لإطعامهم لكى يدفع ثمن الميكروباص، ضرب جرس إنذار القطار وصعد الشاب. بعينين تملؤهما الدموع يكمل الشاب الأسمر الذى قضى قرابة الثلاث سنوات فى بيع «الترمس»، فقرر أن يبحث عن مكان آخر لكسب مبلغ يساعد من خلاله والده، فذهب إلى أحد المحال التى عمل بها مقابل ثلاثين جنيهاً شهرياً، «أحسن من القعدة على الأرض وكل شوية أبيع الترمس بشلن وبريزة» الشاب يصمت قليلاً ليتذكر أيامه الصعبة التى مرَّ بها، مشيراً إلى أنه كان يعمل منذ السابعة صباحاً حتى الخامسة عصراً، وينهى عمله بأن يعطى له صاحب المخبز بأجره عيش «فينو» ليذهب به إلى البيت ويطعم أسرته المكونة من تسعة أفراد «آه والله كنت أروَّح البيت نتغدى ونتعشى بيهم، ومعاهم علبة جبنة». وعن أصعب موقف واجهه «عماد» فى حياته، قال «لما أكون أنا أو حد من إخواتى الصغيرين عيانين، ومش معانا فلوس نكشف، يبكى علينا أهلنا أكتر من بكائنا على وجعنا». «سافرت قبل كده القاهرة عشان أشتغل مبيض محارة.. بس للأسف وأنا رايح الشغل فى مرة ثبتونى وضربونى أنا واللى معايا» يعبر الشباب العشرينى عن معاناته حينما ذهب إلى عمله صباحاً فاستوقفه أربعة من البلطجية يحملون أسلحة وأخذوا منه البطاقة وقاموا بتفتيشه وسرقوا كل ما بحوزته وضربوه، فقرر أن يعود إلى منزله تاركاً التهديدات والبلطجية التى يتعرض لها فى الغربة، ويبدأ فى بيع الرمان فى طهطا «وبقى الحال على ما هو عليه». أمثال عماد من ضحايا الفقر فى قطار الصعيد كثيرون، صابر عبدالله من إحدى قرى أسيوط، بدأت معاناته بعدم تمكنه من الحصول على عمل فى بلدته فقرر الذهاب إلى القاهرة ليبحث عن عمل بأحد المبانى السكنية «عايز أشتغل فى الخشب، أطلع رمل، أى حاجة، بس أجيب فلوس لعيالى». عندما غادر صابر أسرته التى تعانى من ضائقة مالية شديدة، ظل يتذكر فى كل لحظة «يا ريت الخمسين جنيه اللى اديتها لمراتى وعيالى التلاتة هتكفيهم ده أنا لسه هدوَّر على شغل»، التفت الشاب الثلاثينى إلى يمينه رافعاً رأسه عالياً والدموع تنزل من عينيه، ليصمت بعدها ويفكر فى أنه ترك زوجته وأولاده ولا يعلم هل سيجمع مالاً من عمله بالقاهرة وينجح فى توفيره لهم أم لا. أربعة من الشباب، لا تتجاوز أعمارهم العشرين عاماً، جلسوا عند باب القطار يلتفت أحدهم إلى المحصل فى استجداء، لأنهم لا يملكون ثمن التذكرة ليدفعوها، بحسب قول محمد إبراهيم، من ملوى بالمنيا: «إحنا معانا 50 جنيه أنا وولاد عمى وصاحبى، ولو جه الكمسرى مش هتقضى» كلمات يقولها «محمد» وهو ينظر إلى الأرض، وبخجل يكمل أنه قرر السفر إلى القاهرة ليقوم بالعمل فى «النقاشة» فى 6 أكتوبر، ليساعد والده المريض الذى يرقد حالياً فى المستشفى، تاركاً معه والدته وأخاه الصغير الذى لم يتجاوز 15 عاماً «أنا هسافر عشان تعبت، مفيش فلوس فى البلد، أعمل إيه لازم أسافر أجيب فلوس وأشتغل». أحمد على ينطق بحرقة وقهر وهو يجلس بجوار محمد إبراهيم فى القطار، قائلاً إنه قرر السفر لكى يجمع مالاً يساعد به أسرته التى تتكون من خمسة أفراد وأخته التى تحتاج إلى تجهيزات لإتمام زواجها بعد خمسة أشهر، مضيفاً «مش عارف هقدر أجمع 5000 جنيه فى الخمس شهور دول ولا لأ، بس هحاول عشان أنا بحب أختى وعايزها تتجوز وترتاح»، يقاطعه صلاح ابن عمه قائلاً «إحنا مسافرين على حسب التساهيل مش عارفين هنشتغل ولا لأ عشان البلد حالها نايم». صور «الفقر» هنا تدور فى كل زوايا القطار، شباب يتهربون من دفع التذكرة، ومنهم من يذهب للاختباء بين العربات حتى يفلت من قبضة «الكمسرى»، ومنهم من يصعد أعلى القطار معرضاً حياته للخطر، موفراً ثمن التذكرة لمصاريف أكله وشربه، كما يروى بهاء كمال، 22 عاماً. يحمل أوراق التذاكر بين يديه وكشاف بطارية، بسبب ظلام بعض عربات القطار، ليجمع ثمن التذاكر من الركاب، إنه «الكمسرى» الذى يعلم جيداً حال كل مواطن داخل القطار، ويقول إن كثيراً من الركاب لا يستطيعون دفع ثمن التذكرة، «ممكن لو واحد قاعد على الكرسى ومش باين عليه الفقر أوى ومادفعش تمن التذكرة، هسلمه لمكتب الشرطة فى المحطة اللى بعدها وهى تتصرف». كارثة «الفقر اللعين» تتجلى فى مشهد بعض الركاب الذين يختبئون بين عربات القطار من الخارج معرضين حياتهم للخطر، بسبب الزحام الشديد داخل القطار الذى وصل إلى حد التلاصق الشديد بين الركاب، وغالباً ما يؤدى هذا الوضع إلى الشجار بين الركاب، والسبب الثانى عدم امتلاكهم ثمن التذكرة، برغم أن كمسرى القطار قال إنه «يراعى بعض الشباب الذين لا يملكون ثمن التذكرة»، ويقول محمد نبيل، الشاب العشرينى، تعليقاً على ركوبه بين عربات القطار «هذا الوضع أصبح طبيعياً كل يوم بسبب الزحام ومفيش حد بيطيق حد». وتمتد المأساة إلى حمامات القطار التى لا تصلح نهائياً للاستخدام، فيقول أحمد شعبان، عامل رخام، إنها تحولت إلى مكان للجلوس، فعندما يذهب أحد الركاب لقضاء حاجته يجد على الأقل ثلاثة أشخاص جالسين بداخله، بسبب الزحام الشديد، على الرغم من رائحة الحمام الكريهة. الأمر لا يقتصر على رائحة الحمامات الكريهة، ف«البلطجية» هنا لهم دور فى معاناة الغلابة، حيث يستقلون القطار لفرض إتاوات أو السرقة، حيث سرقوا أحد الركاب داخل القطار «أمام أعين الجميع»، دون أن يجرؤ أحد على التدخل لأنهم مسلحون ب«الخرطوش» والأسلحة البيضاء، حسبما يروى ماجد موسى، الذى يعمل فى العاشر من رمضان، قائلاً: «فيه أربعة شباب اتجمعوا حوالين الراجل اللى كان قاعد على كرسى جنب الباب.. وسرقوه عينى عينك قدامنا كلنا ولما اتنين حاولوا يتدخلوا واحد من البلطجية طلّع فرد خرطوش وهددهم بالقتل».