دموع أقدم حارس لحظة الفراق تعكس أغرب علاقة مع النعام «كلما عرفت البشر أكثر ازداد حبى للكلاب».. هكذا يتحدث الكاتب الأمريكى الساخر مارك توين. ربما استطاع الإنسان أن يسخّر الكون كله لخدمته، وأن يستأثر لنفسه بالأجمل فيه، حتى الصفات، ولكن هذا لا يعنى أبداً، أنه ليس هناك كائنات أخرى، قد تشاركه هذه الصفات بامتياز، فعالم الحيوان مليء بقصص الرحمة والوفاء، وليست الحيوانات المستأنسة فقط، والتى يمكننا استضافتها فى منازلنا بين أطفالنا، بل يتواصل الأمر مع الحيوانات الشرسة أيضاً، لتجد شخصا صديقاً لأسد أو دب وأحياناً فيل، فهذه الوحوش الصامتة، كثيراً ما تكون قادرة على تكوين صداقات بينها وبين الإنسان، وبالرغم من أحجامها التى ربما تفوقنا بمراحل، وملامحها التي قد تحمل لنا رعباً، إلا انه بإمكاننا استئناسها، فقط بالحب. عالم حدائق الحيوان يضم قصصاً، وحكايات كثيرة تعكس العلاقة بين الإنسان والحيوانات، فى هذا العالم، الحارس هو الشخص الأهم فى حياة أى حيوان، خاصة عندما يدرك هذا الحارس، أن الرحمة هى أفضل وسيلة للتعامل مع الحيوانات، التي ربما تتخلى عن شراستها وتختار الوفاء للساهرين عليها، جزاء ما قدموه لها من حب ورعاية. «الوفد» تقدم لكم صورة حية من داخل حديقة الحيوان بالجيزة، لتكشف تفاصيل عالم حارس الحيوان، هذا العالم الخاص والمليء بحكايات الرحمة والوفاء. على السيد الليثى، أقدم حارس فى حديقة حيوان الجيزة، رجل على أبواب الستين، عاش أكثر من 40 عاماً داخل الحديقة، يستقبل عقده السابع بقدم مصابة، وحالة صحية تبدو غير جيدة. «لا أترك النعام أبداً، طوال فترة تواجدى فى الحديقة».. هكذا بدأ عم على حديثه، مسترسلاً: على الرغم من أن أنثى النعام أكثر ألفة من ذكره، إلا أنه عندما يرانى فى الصباح يأتى نحوى؛ فرحاً بمجيئى، فرحة لا تقل أبداً عن فرحتى عندما أراه متعافياً، فرغم إصابتى فى قدمى، ومحاولة زملائى والأطباء فى الحديقة إعطائى عملاً مخففاً، نظراً لحالتى الصحية، ألا أننى لا أرغب أن أضيع يوماً واحداُ، من الأيام القليلة المتبقية لى، قبل إحالتى للمعاش، بعيداً عن نعاماتى. وأضاف عم على: لدينا فى الحديقة حوالى ثلاثون نعامة، أحبها جميعاً، ولكن «نورا» هى أقربها إلى قلبى، وعمرها الآن اثنا عشر عاماً. ثم استدار عم «على» إلى نعاماته وطلب من نورته المجيئ، فإذا بها تحضر فى وداعة قطة، وتتبعها «لولا» غيرة منها أن حارسهما اهتم بنورا أكثر، ووقفت النعامتان بجوار عم على، وقد وضعت إحداهما فمها بجوار وجهه، ووضعت الأخرى رقبتها حول عنقه، بينما احتضنهما الحارس، فى مشهد يجسد علاقة مختلفة بين إنسان وحيوان، ثم بدأ حارس النعام يروى قصصاً وحكايات حول رعايته لهذا الكائن المختلف، واهتمامه بمواعيد الأدوية فى حالة مرض إحداها، وكيف أنه كان يحكى لها أدق أسرار حياته وهمومه، وهو على يقين أن أحداً منها لن يخون السر يوماً، كما يفعل الإنسان أحياناً، وظهرت بوادر الدموع فى عينيه وهو يتحدث عن حزنه من اقتراب لحظة الفراق بينه وبين النعام، الذى عاش معه أغلب سنوات عمره، ثم نظر بعيداً وقال: لا أتخيل حياتى بعيداً عن أسوار هذه الحديقة. عندما كتب الكاتب الكبير أبوالسعود الإبيارى قصة وسيناريو الفيلم المصرى الأشهر «إسماعيل ياسين فى حديقة الحيوان» عام 1957، والذى أخرجه سيف الدين شوكت، فى بطولة مشتركة بين نجم الكوميديا إسماعيل ياسين وآمال فريد، كان عم محمد أبومانع يعمل حارساً لبيت الأسد، والذى حكى كل تفاصيل زيارات نجم الكوميديا للحديقة، لابن أخيه وحيد أبومانع حارس بيت الشمبانزى الآن، والذى التقيناه فى مكان، أقل ما يقال عنه إنه بيت المرح، عدد غير قليل من الشمبانزى، بدأ حالة من الاحتفال، بمجرد رؤيته للكاميرا وجهاز التسجيل، وكأنه يعى تماماً أنه سوف يجرى حواراً صحفياً. فرحة حقيقية انتابت «كوكو» الشمبانزى الذى يبلغ من العمر حوالى 12 عاماً، فبدأ فى التصفيق، فما كان من حارسه والذى بدا صغيراً بعض الشيء أن يكافئ صديقة مثلما قال عنه بقطعة من الآيس كريم، ليزداد الشمبانزى فرحاً وصخباً. يقول محمد أبو مانع حارس بيت الشمبانزى: أحضر إلى الحديقة منذ كان عمرى خمس سنوات، كنت أحضر مع عمى الذى عمل حارساً للأسد لمدة أربعين عاماً، بعدها أحببت عالم الحيوان، وتمنيت أن يصير عالمى، لدينا هنا سبعة شمبانزى، أراها كل يوم، وأقضى معها وقتا أكثر مما أقضي مع أولادى، وأشعر بسعادة عندما أجد الشمبانزى سعيدا، وأشعر بالاكتئاب عندما أجده ليس طبيعياً، فأنا أحبها بشكل حقيقى، وألعب معها أغلب الوقت ، ويكمل أبو مانع: الشمبانزى يعشق الشاى واللبن ، ثم أشار إلى إحداها وقال: هذه هى لوزة، وضحك ضحكة عالية وقال: لوزة تعشق الرسم ، وقدم لها ورقة وقلماً وبدأت لوزة بالفعل فى الرسم، بعدها قدمت يديها للحارس حتى يقلم لها أظافرها، وكأنها تقدم عرضاً مسرحياً، وقال أبومانع: علاقتى بالشمبانزى قوية للدرجة التى تجعله قد يهاجم أى شخص يحاول أن يؤذينى. ثم عاد حارس الشمبانزى لحكايات عمه محمد ابو مانع حارس بيت الأسد وعلاقته غير العادية بملك الغابة، وحكى أن عمه كان يجلس يوماً حزيناً بجوار قفص الأسد، فإذا بالأسد يخرج يده من القفص، ويطبطب عليه وكأنه يواسيه ، وذكر أن عمه نقل خبرته فى التعامل مع ملك الغابة للفنان اسماعيل ياسين أثناء تصوير فيلمه "اسماعيل ياسين فى حديقة الحيوان"، وقال إن الفنان الكبير جاء كثيراً إلى الحديقة قبل تصوير الفيلم، وكان يجلس مع الحراس، ويراقبهم فى تعاملهم مع الحيوان ليتقن دوره فى الفيلم . ولم يقتصر الاهتمام الفنى بعالم حراس الحيوان على اسماعيل ياسين والإبيارى، فى القالب الكوميدى الذى قدماه فقط، فقد تخطى الأمر هذا كثيراً؛ لتقدم السينما العالمية حارس حديقة الحيوان فى قالب درامى إنسانى، مثلما فعل المخرج نيكي كارو، فى فيلم «زوجة حارس الحديقة» والذى يحكى حكاية زوجين بولنديين، هما «أنتونينا» و«جان زابينسكي» واللذين عملا كحُراس لحديقة حيوان فى العاصمة البولندية «وارسو»، ونجحا في إنقاذ مئات البشر والحيوانات أثناء الاحتلال النازي، الذي وقع على بولندا خلال فترة الحرب العالمية الثانية، الفيلم من تأليف ديان أكرمان، بطولة جيسيكا تشاستين ودانيال بروهل. نعود إلى حديقة حيوان الجيزة وحراسها، قصة حسن ونعيمة يرويها لنا محمد أحمد عبد العزيز، حارس بيت الفيل لأكثر من ثلاثين عاماً، مع أنثى الفيل الوحيدة «نعيمة» فى الحديقة، بعدما نفق ذكرها حسن منذ أربعة أعوام. نعيمة تبلغ من العمر حوالى سبعة وثلاثين عاماً ، عانت كثيراً بعد نفوق ذكرها، وامتنعت عن الطعام وأصابتها حالة من الاكتئاب، ووقتها تدخل الأطباء لمعالجتها نفسياً، حتى استطاعوا إعادتها إلى حالتها الطبيعية، بعدها بدأت تعتاد على الحياة الجديدة بدون حسن، وبدأت تتجاوب مع الجمهور. دخل عم محمد إلى «نعيمة» محاولاً إطعامها ووضع يده فى فمها، وبدت الفيلة نعيمة كأنها تبتسم له، مستجيبة لكل أوامره التى طلبها منها، حتى أنها استجابت لكل وضعيات التصوير التى طلبها منها عم محمد بناء على توجيهات زميلى المصور. وإذا ما عدنا للسينما التى تناولت حياة حراس حدائق الحيوان، فلا يمكن أن نغفل الفيلم الأمريكى «حارس الحديقة» وهو من أشهر الأفلام التى قدمت لحياة حارس الحيوانات، وجاء الفيلم مختلفاً عن كل ما قدم فى هذه الدائرة، حيث اختلط الخيال بالواقع من خلال فهم الحارس للغة الحيوانات، وسهولة التواصل والحديث معهم ، فى محاولة منها لحل مشاكل الحارس مع خطيبته، والتى ترفض مهنته كحارس فى حديقة الحيوان، الفيلم بطولة الممثل الكوميدي كيفن جيمس، ومن إخراج فرانك كوراسي. أن تصادق نعاماً أو شمبانزى، شيء ليس بالمستحيل، لكن أن تصادق فيلاً أو دباً، من المؤكد أن الأمر لم يكن أبداً سهلاً، محمد كامل حارس بيت الدب لأكثر من خمسة وعشرين عاماً، يروى تفاصيل حياته مع الدببة فيقول: الدب حيوان شرس ويحتاج لأن نتعامل معه بالرحمة حتى يصبح أليفًا، وعندما يشعر بالحنان يكون هادئاً، فالرفق بالحيوان عامل أساسى لتوطيد العلاقة بينه وبين حارسه، وأضاف: والدى كان يعمل هنا لمدة أربعين عاماً، وورثت المهنة عنه وعشقتها ولا أتخيل نفسى أعمل فى مكان آخر غير الحديقة، الحيوان يحتاج لعناية ورحمة، فهى روح جعلك الله حارساً عليها . وأكد أنه يدخل كل يوم عند الدببة، ويفحصها جيدا وكأنها اولاده حتى يتأكد أنها بخير، وإذا وجد أى تغيير فى جسم الحيوان أو سلوكه، يسرع بإبلاغ رئيسه حتى يخبر الطبيب، ويحاول الحارس مساعدة الطبيب فى تحديد طريقة العلاج التي تناسب الحيوان، بمعنى أن هناك حيواناً يرفض الحقن، لذلك يطلب من الطبيب أن يكتب له أقراصاً بديلاً عن الحقن.