فى مهابة روحية وسكون يغلفه ترتيل آيات القرآن الكريم بين جنبات المكان بأصوات خاشعة ورخيمة، يقف المنبر فى المسجد فى شموخ وعظمة، ينتظر من يعتلى درجاته من علماء الدين وشيوخ الإسلام الكبار لكى يعلموا الناس أمور دينهم ودنياهم. لذلك احتل المنبر فى الجامع مكانة رفيعة فى قلوب المسلمين، جعلتهم وعلى مدى مئات السنين يتفننون فى صنع المنابر ويبدعون فى نقشها وزخرفتها، حتى كانت المنابر أحد المجالات التى أظهرت تذوقهم الجمالى وقدرتهم على الإبداع بكل قوة، ومحط إعجاب وانبهار الدارسين لفن العمارة الإسلامية وفلسفتها الروحية والمادية. ولقد اختلف المؤرخون فى كلمة (منبر).. هل هى دخيلة على اللغة العربية من جهة الحبشة ثم عربت واستعملها العرب؟ أم أنها عربية أصيلة مشتقة من «نبر»؟ وعلى القول الأول فإنها فى الحبشة كانت أصلاً (ونبر) بمعنى كرسى أو سدة كبيرة لكرسى الملك أو رئيس الديوان. البداية دائماً من سيد الخلق أجمعين، نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، حيث كان أول منبر صنع فى الإسلام كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم و كان قبل صناعته، يخطب فى المسلمين بمسجده الشريف وهو واقف عند أحد الجذوع التى تحمل السقف ومتكئا على عصا من خشب «الدوم» ولاحظ المسلمون أن هذا الموقف يشق على الرسول ويتعبه فاقترحوا عليه أن يتخذ شيئاً يجلس عليه ويستريح فوافقهم على ذلك, وصنعه له رجل يدعى (كلاب) كان فى خدمة عمه العباس بن عبد المطلب فظهر إلى الوجود أول منبر فى الإسلام مصنوع من خشب الأثل. يتألف من ثلاث درجات: الأولى والثانية منها لصعوده، والثالث لجلوسه، وارتفاعه ذراعان وثلاثة أصابع، وعرضه ذراع واحد، وكان ذلك فى السنة السابعة للهجرة. ووردت فى فضل منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم أحاديث عدة، يستفاد منها شرفه ومكانته العظيمة وحرمته العالية. فقد روى عن أبى هريرة وسهل بن سعد رضى الله عنهما أنه صلى الله عليه وسلم بعد أن انتهى النجار من صنعته جاء فقام عليه، وقال صلى الله عليه وسلم: «منبرى هذا على ترعة من ترع الجنة» رواه أحمد وهو صحيح. وحذر من الحلف تحته كاذباً فقال: «لا يحلف أحد عند هذا المنبر -أو- عند منبرى على يمين آثمة ولو على سواك رطب إلا وجبت له النار-أو- إلا تبوأ مقعده من النار» رواه أبو داود وابن ماجة وأحمد وهو صحيح. وإذا كان الخشب هو المادة الأولى التى صنع منها المنبر لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم درج الناس على ذلك، إلا أنهم مع تطور الحياة وتعقدها واهتمام الناس بالمظاهر والزخرفة، وبنائهم المساجد الفخمة المكلفة للأموال الكثيرة، وتفننهم فى كل شيء فيها، فقد برز اهتمام الصناع بمنابر الخشب، مما حدا بهم إلى اختيار أنواع خاصة من الخشب المعمر أو النفيس، كالأبنوس والجندل والجوز والزان وغير ذلك من أنوع الخشب القوى الفاخر، كما درجوا على تطعيم بعض المنابر بقطع من الفسيفساء والعود، أو القيام بحفر بعض الآيات أو الأحاديث وأسماء الولاة والسلاطين وأسماء صناع المنابر وتاريخها عليها، وتزيينها وزخرفتها بالزخارف الإسلامية المعروفة، كالنجوم المتعددة الأضلاع، أو الخطوط العربية الشهيرة، أو نحو ذلك من فنون الأرابيسك. أما أقدم منبر فى الإسلام بعد منبر سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، فهو منبر مسجد عمرو بن العاص رضى الله عنه الذى بناه فى مدينة الفسطاط بعد فتح مصر. وهو اللبنة الإسلامية الأولى فى القاهرة العاصمة، وهو الأثر الإسلامى الوحيد الباقى منذ الفتح الإسلامى لمصر. ومن أشهر تلاميذه الإمام الليث بن سعد، والإمام الشافعى، والسيدة نفيسة، وابن حجر العسقلانى، وسلطان العلماء المعز بن عبد السلام. من المنابر الهامة ذات المكانة الروحية عند المسلمين فى كافة مشارق الأرض ومغاربها المنبر النقال الخاص بالحرم المكى، والذى يوضع مقابل باب الكعبة، فتتجه إليه رؤوس آلاف الحجاج ليستمعوا إلى خطبة شيخ الحرم المكى الشريف، ثم يحرك إلى مكان بعيد، كى لا يعيق الطواف حول الكعبة. ولقد ذكر ابن بطوطة أنه رأى المنبر النقال فى مكة. لم ينحصر دور المنبر فى يوم الجمعة لإلقاء خطبة الجمعة من فوقه، بل كان له دور أوسع وأشمل منذ أيام النبى صلى الله عليه وسلم، فقد كانت الخطب الأخرى فى المناسبات عموماً تلقى من فوقه، وتلك المناسبات بعضها دينى أو سياسى أو اجتماعى أو حربى، أو غير ذلك. وقد كان للنبى صلى الله عليه وسلم خطب عديدة غير خطبة الجمعة فى أوقات مختلفة. وأهم دور للمنبر -عدا خطبة الجمعة- أنه كان فى الصدر الأول مكاناً لمبايعة الخلفاء عند توليهم أمور المسلمين، إذ بويع من فوقه الخلفاء الراشدون والأمويون والعباسيون، وغيرهم. مر المنبر بتغيرات عديدة ارتبطت بعادات وتقاليد الشعوب التى دخل فيها الإسلام وبنى فيها مساجد، فكان عدد درجات المنبر لسنوات طويلة فى كثير من الأمصار الاسلامية لا تزيد على تسع درجات، ابتداء من أيام مروان بن الحكم حين زاد درجات منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى تسع، إلا أننا فى زمن المنابر الحديثة شهدنا ظهور المنابر التى لا تتقيد بعدد معين فى درجات المنبر، بل ربما زادت أو نقصت عن العرف القديم. أيضاً من العادات الغريبة التى ارتبطت بالمنبر ان درج خطباء المنابر على حمل سيف أثناء خطبة الجمعة فى البلاد التى فتحت عنوة وقسرًا، بينما يتوكؤون على عصا فى البلاد التى فتحت سلماً وعهدا. وتعد بعض المنابر قطعا فنية نادرة لدقة زخرفتها، أو قدم صنعها، أو جمال شكلها، أو نفاسة أخشابها ومعدنها، ومن تلك المنابر الشهيرة التى طار صيتها: منبر جامع قرطبة الذى بناه الحكم المستنصر، واستغرق بناؤه سبع سنين، ووصف بأنه ليس فوق الأرض مثيل له. ومنها منبر المسجد الأقصى، الذى أمر بصنعه قبل طرد الصليبيين نور الدين زنكى، وبقى فى حلب، حيث صنع فى عشرين سنة، حتى حرر صلاح الدين الأيوبى القدس، فحمله إلى المسجد الأقصى ووضعه فيه تحقيقاً لحلم نور الدين المجاهد الكبير وكان آية فى الجمال والإتقان.