"لعن الله الفراغ فإنه مفسدة".. مقولة أخلص أجدادنا النصح فيها وهي تلخص في الوقت ذاته الآثار المدمرة على أحوال الفرد بدون العمل، والتي تنتقل بالتبعية إلى تهديد المجتمع بمخاطر لا يمكن التنبؤ بأبعادها ، ومن هنا تطرح أزمة البطالة نفسها وبعنف على أجندة عمل أي حكومة، بل تبقى هي المحك الأساسي لقياس مدى نجاحها أو إخفاقها ، بل إن مؤشرات انخفاض وارتفاع البطالة تعد من أهم معايير قوة أو ضعف الدولة . ورغم تعدد الدراسات المستفيضة عن توابع "تسونامي" البطالة المدمر ، فإنها على الأرجح لا تصل إلى مسامع المسئولين الذين يصمون آذانهم عن الحقائق المؤكدة، ويكتفون بوضع مسكنات فقدت تأثيرها على الشعب بإطلاق الوعود الرنانة ودغدغة مشاعر المواطنين لتحقيق مآرب بعيدة كل البعد عن العلاج الناجع للأزمة . استقطاب وبلطجة وكما يرى الخبراء فإن الآثار المدمرة لأزمة البطالة لا تقتصر على كونها ضمن مقومات التصنيف ، وإنما يترتب عليها كوارث أخرى لا يمكن تداركها بأية حال، ولعل أولها سهولة عمليات استقطاب هؤلاء الشباب المتعطشون للعمل والكسب وتجنيدهم ليتحولوا إلى قوة تدميرية هائلة، ليمثلوا خطورة بالغة على مجتمعهم وهذا على وجه التحديد ما شهدته البلاد منذ عدة أسابيع . حيث فجرت الأحداث الدامية التي شهدتها ميادين الصراع في مصر مؤخرا مفاجأة خطيرة ، بعد أن كشفت التحقيقات الأولية وجود مافيا إجرامية لتجنيد أطفال الشوارع والعاطلين عن العمل لمساعدة البلطجية، وإضفاء صفة التنوع على مرتكبي جريمة حرق مصر التي انطلقت من المجمع العلمي، وكان مخططا لها أن تأتي على الأخضر واليابس لولا تدخل العناية الإلهية ودفع الناس بعضهم لبعض لإنقاذ ما أمكن إنقاذه من معالم مصر ودررها النفيسة . كما كشفت التقارير المنشورة تدفق 6 مليارات جنيه على مصر منذ قيام ثورة 25 يناير، وصلت لأيدي منظمات عمل مدني وجمعيات أهلية وائتلافات ثورية لم تكن بمعزل عن الحرائق الخطيرة ودوامة العنف التي كانت تهدد بانزلاق البلاد إلى هوة سحيقة ، وغير خاف على أحد أن وقود هذه الحرب هم من الشباب الذي يخضع لعمليات "غسيل المخ" التي يجريها بعض من لا يريدون خيرا لبلادنا، والذين يبذلون كل جهدهم لتشويه صورة الثورة السلمية المجيدة . وجاءت اعترافات المتهمين بحرق المجمع العلمي لتشير في أغلبها إلى وقوف عنصر المال وراء دفع المتورطين فيها ، حيث قال كثير من الشباب والأطفال أنهم يتقاضون 50 جنيها يوميا مقابل القيام بجرائم لا يقوم بها سوى "المرتزقة"، وطبعا المسألة لا تخلو من تزيين الشر حيث يقال لهم دائما أن الدولة فاسدة لذا لابد من هدمها ومن ثم البناء على نظافة على معايير الوطنية والعدالة الاجتماعية،.... إلى آخر هذه العبارات الرنانة التي يتشدق بها شياطين إغواء البشر . ثانيها إدمان وتحذر كثير من الدراسات الاجتماعية من منظومة أخطار أخرى تترتب على تفاقم أزمة البطالة بين المواطنين ، أطفال وشباب ورجال بل ونساء أيضا، حيث تشير المعلومات أن "الهدف" ، ويقصد به هنا العاطل عن العمل ، إذا أفلت من السقوط في بئر الإرهاب فذلك لا يعنى أن الخطر قد زال ، فأغلب الأسر الميسورة والمتوسطة الحال توالي ابنها بالأموال لحين انفكاك العقدة بعثوره على العمل، وذلك تخفيفا من وطأة الإحباط عليه ولرفع روحه المعنوية . وهنا يتسلل الخطر الداهم عبر فتحة أخرى ، حيث يقع كثير من الشباب فريسة لإدمان المخدرات وترتفع نسبتهم بشكل كبير جدا بين المحرومين من العمل ، ليتم استقطاب ضحايا البطالة من مافيا إجرامية أخرى لا تعرف شفقة ولا رحمة ، وتتم الجريمة المنظمة على طريقة الخلايا العنقودية حيث يتم في البداية جر أقدام مجموعة بسيطة لأوكار المخدرات، تتولى فيما بعد الانتشار والتغلغل بين الأصدقاء والأقران حتى نصل لما يشبه كارثة حرب الأفيون . وتدلل الشواهد على أن هذا الكلام ليس مرسلا أو من قبيل التخويف، وخير إثبات لهذا الانتشار الخطير لتجار المخدرات في هذه الأيام الفارقة في تاريخ أمتنا المصرية والعربية ، فلا يكاد يخلو شارع من تاجر مخدرات أو أكثر ولم يعد البيع وسط إجراءات كتمان مشددة، بل إن الأقراص المخدرة والبانجو والحشيش يباع على النواصي وقريبا في السوبر ماركت إذا ظلت حالة الغياب الأمني على النحو المشكو منه حاليا . والثالثة انتحار وإذا نجا ضحايا البطالة من حفرتي الإرهاب والمخدرات فلا تحسبن الخطر قد زال ، فإن قائمة المخاطر تبقى طويلة ، فحين يصل بعض الشباب أو الرجال لمرحلة قاسية من المعاناة ويفشل في إيجاد فرصة عمل، ويختلط هذا بظروف الفقر أو الإعالة فإن كثيرا من ضعاف الأنفس والإيمان يلجأون للتخلص من حياتهم بالانتحار، حيث كشفت الأرقام انتحار 12 ألف شاب في مصر بسبب البطالة خلال 4 سنوات فقط، وأنه عام 2005 شهد 1160 حالة انتحار ، ارتفعت إلي 2355 في 2006، ثم واصل الرقم ارتفاعه إلي 3700 حالة انتحار 2007، فيما تضاعف عدد المنتحرين في 2008 لتصبح المحصلة النهائية 12 ألف حالة انتحار غالبيتها بين الشباب بسبب غياب الوظائف.. وهذا قمة الخراب ، فبث روح اليأس والإحباط في نفوس الشعب هو قمة النجاح لأعداء الوطن. فالشعب اليائس المحبط لا يقيم مجتمعا ناهضا ولا يحمل أفراده أي ولاء لوطنهم، ومن ثم لا يفكرون في الدفاع عنه أو الذود من أجله ، بل يسهل تجنيدهم لتخريب بيوتهم بأيديهم ، لا قدر الله . ولا تقدم السطور السابقة رؤية سوداء بأية حال لزيادة الطين بلة بدفع روح التشاؤم بين ضحايا البطالة، وإنما نسعى من خلالها لدق ناقوس الخطر لوضع أيدي المسئولين عن هذا البلد الأمين على مكمن الخطر، ومحاولة إرشادهم نحو الطريق الصحيح بضرورة البحث عن حلول جذرية لأزمة البطالة، ووضع حد لمعاناة الملايين بتوجيههم نحو هدف بناء لا هدم قبل أن يقع المحظور .